ستار كاووش
حين كنتُ أعيش في مدينة روتردام، جنوب هولندا، كان لديَّ صديقاً طويل القامة، وهو يتميز بملابسه ذات الألوان الفاقعة. وقد إشترى في إحدى المرات قميصاً برتقالي اللون، لكن حين حاول أن يجربه في البيت،
إكتشفَ إن القميص لا يناسب حجمه، وبدلاً من أن يعيده الى المتجر كي يستعيد ثمنه أو يحصل على قميص آخر، إتصل بي وأخبرني بأن لديه قميص جديد وجميل يناسب مقاسي. وبما إننا كنا نتبادل الكثير من الأشياء فيما بيننا، لذا أخذته منه ممتناً. وفي اليوم التالي لبست القميص وخرجت ظهراً الى مركز المدينة، وبعد جولة صغيرة دخلت الى حانه كانت تبدو فارغة إلا من البارمن بشعره الرمادي المصفف بعناية، وقد كان يهيء المكان ويرتب الأقداح. جلست بمحاذاة البار على المقعد الأول في عمق الحانة وطلبت شيئاً أشربه، وقد إنتبهتُ الى شاشة تلفزيون كبيرة في الأعلى، يظهر فيها برنامج عن الرياضة. وهنا سألني البارمن وهو منشغل بتجفيف أحد الكؤوس (هل ستبقى لمشاهدة المباراة ؟) فإستفسرت منه حول أية مباراة يقصد، فأجابني بإندهاش وهو يُشير الى قميصي البرتقالي (اليوم ستعلب هولندا) فقلت له (نعم، لقد نسيت، يبدو الأمر ممتعاً لمشاهدة المباراة هنا). مرَّ بعض الوقت وتكاثرت الأقداح وتشعب الحديث، وفجأة دخل مجموعة من الشباب والشابات، وكانوا جميعاً يرتدون القمصان البرتقالية، وجلسوا بالتتابع واحداً بعد الآخر على المقاعد الفارغة المحاذية للبار، حيث جلس آخرهم بجانبي، وصرت أبدو كإني واحداً من المجموعة. بدأ الضجيج يتصاعد بإنتظار المباراة، وأقداح الجعة أخذت مكانها على سطح البار الأملس الطويل، والجميع منشغلين بمراقبة الشاشة. بعد نصف ساعة دخلت مجموعة أخرى من الشابات والشباب الذين يعتمرون قبعات برتقالية فتصاعد الضجيج أكثر وعلت الأصوات الإحتفالية. بدأت المباراة، ولم تمض سوى بضع دقائق حتى أحرزَ الفريق الهولندي هدفاً، فإرتفعَ الصراخ والإحتفال والعناق، وأُحضرتْ لنا أقداح جديدة من الجعة التي لا أعرف من الذي طلبها ومن الذي دفع ثمنها، وهذا ليس مهماً في مثل هذه اللحظات الهولندية. ثم قامَتْ بعض الفتيات بنفخ عدد من البالونات البرتقالية وإطلاقها في فضاء الحانة، وسط ضحك وتعليقات البارمن. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل أن الفتاة التي تجلس على المقعد الأول من الطرف الآخر، أخرجت من حقيبتها علبة ألوان بخاخة تشبه تلك التي يستعملها رسامي الكرافيتي. هزت العلبة بيدها ثم رشت صبغاً برتقالياً على شعر الشاب الذي بجانبها إحتفالاً بالهدف البرتقالي، ثم تركت مقعدها المرتفع وسألت الفتاة التي تلي الشاب، إن كانت تود ذلك أيضاً، فوافقت مع ضحكة كبيرة، فصبغت شعرها أيضاً. وهكذا مضتْ تصبغ شعر كل أصدقائها وصديقاتها بالتتابع وهم فرحين بالهدف الذي سجلته هولندا، وحين وصلت لي، بدوتُ لها من خلال قميصي البرتقالي، وكإني واحد من المجموعة، فسألتني إن كنت أرغب بذلك أيضاً، فنظرت الى وجهها الجميل وخداها المتوردان بعد قدحي بيرة، ولم أجرؤ على رفض طلبها وهي تحتفل بهولندا بهذه الطريقة الجذابة، فأشرتُ لها بالموافقة طبعاً، فصبغت شعري وصرت واحد من المجموعة. وهكذا مضى ما تبقى من المساء بالصراخ والإحتفال، وقد فازت هولندا في نهاية المباراة.
وفي وقت متأخر من المساء عدت الى البيت وأجهزتُ على علبتي بيرة كانت موجودة في الثلاجة، ثم رميتُ نفسي في السرير ونمتُ عميقاً. في اليوم التالي صحوتُ متأخراً، وحاولتُ غسل وجهي قبل شرب القهوة، لكني حين نظرت في المرآة، فزعتُ وأنا أرى شخصاً بشعر برتقالي منكوش، شخص يشبهني تماماً لكنه بشعر برتقالي غريب. عندها تذكرتُ الشباب والحانة والصياح والفتاة البرتقالية التي صبغت شعري إحتفالاً بذلك المساء، وإنطبعت على وجهي إبتسامة عريضة وأنا أتذكر التفاصيل. وسألتُ نفسي بعد أن ذهبت السكرة وجاءت الفكرة: (والآن ماذا سأفعل بهذا الشعر الملون؟ وكيف سأخرج بعد قليل؟) يبدو إن الإحتفالات في هولندا تغير الكثير حتى لون الشعر. لكن لحسن الحظ حين مسحت اللون ببعض الماء بدأ يزول، وتأكدتُ بأنها صباغة مؤقتة من تلك التي تُستعمل في الإحتفالات. بعد بضعة أيام خرجتُ الى المدينة باحثاً عن مجموعة جديدة من الشباب والشابات الذين سأشاركهم الإحتفال، ولا يهم إن تغيَّرَ شعري الى أي لون، مادامت هولندا ستفوز في المباراة.
جميع التعليقات 1
Sayid Munzir
مصادفه جميله وظريفه وممتعه