اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > كهفٌ محتشدٌ بالنّور

كهفٌ محتشدٌ بالنّور

نشر في: 18 مارس, 2023: 11:09 م

د.أماني فارس

بما أنّ العنوان هو بمثابة الرأس من الجسد، أو النواة التي تتفتّق عنها المكونات النصيّة، كما قال نبيل أيّوب، وبما أنّه عتبة للدخول إلى النّص بما يحمله من مجموعة من الدّلائل اللسانية التي تعيّن النّص، وتشير إلى محتواه العام على حد تعبير ليو هوك، فلا بدّ لنا من الوقوف عنده، هو الذي يتحرّك ضمن الفضاء الدّاخلي للكتاب، ومن خلاله يلج المتلقي عوالم النّص المتشعبة.

إن اختيار الكاتب لهذا العنوان لم يكن اعتباطًا، إنما كان يتم عن وعي منه، لنجده يتفاعل نصيًّا مع الرّمز الفلسفي الأفلاطوني (الكهف) الّذي يشير إلى أنّ حياة الإنسان ظلّ حياة ووهم، والرّمز الدّيني الإسلامي "سورة الكهف" حيث عانى النبي انقطاع الوحي فانبعاثه. ما أراد أفلاطون أن يقوله في مثاله عن الكهف، أنّه طريق الفيلسوف الذي يمضي من التمثيلات غير الأكيدة إلى الأفكار الحقيقيّة التي تختبئ وراء الظواهر الطبيعية، وما أراد قوله سالار عن الكهف في كتابه، أنّه طريق القارئ الذي يمضي من خلال الظاهر إلى الكشف عن المعنى الخفيّ الذي يتوارى خلف عناصر العمل الرّوائي، أن يبحث عن قصدٍ لمعرفة ما، لا أن يدخل النّص للعثور على موقف يتناسب مع أفكاره ومعتقداته، وأن لا يسقط الواقع الذي يعيشه على النّص، ففضيلة الرّواية تكمن في اللايقين حيث تفكّ النسيج الذي حاكه الثيولوجيون والفلاسفة على حد تعبير ميلان كونديرا، ليأتي هذا العنوان حاملًا قيمة إيحائية، تلمح بالمحتوى ولا تصرّح به، فتقيم حجابًا بين العنوان وقارئه. جاء العنوان برمزيته التي تتمثّل بالعقل والمنطق، بحكم ما نستشفه من قصة الكهف عند أفلاطون (الذي يرى أنّ معظم الناس يتعلّقون بالظلال دون البحث عن الأصل الذي يختبئ وراء هذه الانعكاسات للوصول إلى المعرفة الحقيقية عن طريق استعمال العقل)، وبين ما نلمسه في جسد كتاب "كهف القارئ" عندما ندخله، ونغوص في عمق العالم الدّلالي لمكنوناته.

يضم "كهف القارئ" مقالات متنوعة تتناولُ علاقة الرّواية بالفنون والأجناس الأدبية الأخرى، ويرصد المراحل التي مرّت بها، وكيف تتمدد أكثر مع إحداثيات العصر، هذا التمدّد الذي يضمن سيرورتها، إضافة إلى فتح الكاتب الأفاق لمناقشة موضوع تباين الذّائقة ومستويات التلقي من عصر إلى آخر، خاصّة أنّ الرّواية اليوم لا يضاهيها فن آخر على مستوى استقطابها لجمهور عريض من فئات وشرائح مختلفة، فالرّواية على حد تعبير سالار فنّ بلا ضفاف من حيث الثيمات، وبلا حرية في الصياغة والشكل، وكما قال الرّوائي هرمان بروخ بما معناه أنّ السّبب الوحيد لكتابة رواية هي كونها تقول شيئًا لا تستطيع سوى الرّواية أن تقوله. ومن واجبها أن تحشر أنفها في كلّ شيء على حدّ تعبير حبيب سروري. إذاً فهي تحتاج إلى القارئ الذي يراهن عليه المؤلف لخروج منجزه الأدبي من العتمة.

ويضم القسم الثاّني من الكتاب إضاءات وقراءات عميقة في مختارات من الرّوايات العالمية، يرصد من خلالها الكاتب خصوصية الرّوايات المترجمة من حيث التنظيم والتكامل القائم بين الشّكل والمضمون، والتنويع في الثيمات وتوظيف الهموم والمعطيات الحياتية في حياكة العمل الرّوائي. من هذه المختارات رواية "بطل من هذا الزمان" لميخائيل ليرمنتوف، و"اللؤلؤة " لجون شتايبنك، وقراءة حول أعمال الرّوائي الفرنسي باتريك موديانو وإقامته في الذاكرة، ورواية "على قبوركم" لبوريس فيان، و"هذا سوف يمضي" لميلينا بوسكتس، رواية تنفتح على صخب الحب، و سحر المرح، والعلاقات الإنسانية المتنوعة، وللسويسري باسكال مرسييه "قطار الليل الى لشبونة" ذات البنيات المتعددة، و" أنا قبلك" للرّوائية البريطانية جوجو مويس، و"ابتسامة ما" للكاتبة الفرنسية فرنسواز ساغان التي جعلت من المستوى النفسي محورًا للبيئة السّردية، ورواية "السقوط" للفيلسوف الوجودي ألبير كامو، كما تناول الكاتب الحس السّينمائي في "الصيف الجميل" للكاتب والشّاعر الإيطالي تشيزره بافيري، والسّرد الاستقصائي في رواية "جنود سالامينا" لخافيير سركاس، وتناول خلال حديثه عنها التداخل بين الرّواية والصحافة وكيف أنّ على الرّوائي أن يُدرك ضرورة متابعة الصحافة، وكل صحافي يتصف بما يؤهله لأن يكون روائيًا، وقراءة في "ميتتان لرجل واحد" للكاتب البرازيلي جورج أمادو الذي تبنّى أسلوبًا فكاهيًا ليحيك أحداث عمله، وغيرها من المختارات التي سلّط الكاتب الضوء عليها سابرًا أغوارها.

من المقالات التي تناولها سالار في القسم الأوّل من كتابة، أولًا تطرّق إلى أهمية الوعي في عملية الإبداع الرّوائي وخاصة في ظل التضخم الرّوائي، ليطرح سؤالًا جوهريًّا، ماهي المصادر التي يكتسب منها المبدع الدراية والمراس في تأليف الأعمال الرّوائية؟ ثمّ يبحث بعد ذلك في العلاقة بين المبدع والنّاقد والقارئ، وتشابك الرّواية بالصحافة ليخلص إلى أنّ الرّوائي يجب أن يتمتع بحس صحافي، وإلى أن ينتبه إلى ما يضخ في المنابر ويعرض في الجرائد... وفي الرّواية وغواية السّيرة، ذكر أنّ في السّرد الرّوائي تكمن رغبة واضحة في تحويل ما بقي طي الكتمان إلى المسرود الرّوائي، مسلّطًا الضّوء على السّيرة الذّاتية والمرجعيّة الشّخصيّة. ففي كثير من الأحيان تكون الشّخصيات المنسوجة في العمل الرّوائي، هي وجوه متعدّدة لشخصية المؤلّف في مراحل مختلفة، إضافة إلى استلهام مادة أعماله من سيرة الأخر لا من سيرته الشّخصية فقط.

وفي مقال بعنوان الرّواية والمحرّم يتحدّث عن دور الرّواية الذي يسلك مسالك متعددة للتفكير، وانعتاق الوعي من إسار المتراكمات الاجتماعية والدينية والسياسية. وحول إثارة الجدل بشأن الأعمال الرّوائية التي تتصف بالجرأة، والتي تساءل المسلّمات الدينية والسياسية والاجتماعية أو ما يسمى بالثالوث المحرم، فيقول الكاتب ما يضع العمل الرّوائي على خط التصادم مع المنظومة السياسية والدينية هي محاكمة النّص بناء على ما هو سائد، أي دون تمريره ومحاكمته بنور العقل والمنطق.، وفي حديثه عن المفارقة يقول من المفارقة أن تتحول العيوب الكامنة في فنّ الرّواية إلى مروحة لتطوره. ليطرح سالار تساؤلات عدّة ليس الهدف منها الحصول على إجابات بقدر ما الهدف منها التأمل وإعادة النظر، قائلًا: "هل يصحّ فهم الإقبال على قراءة الرّواية على المستوى العالمي بالاستناد إلى العامل التجاري، لأنّ الرّواية أكثر استجابةً لمتطلبات السّوق؟ أم أنّ الرّواية حلّت مكان الأساطير والأيديولوجيا، وبالتالي كلما ازداد الشّعور بالاغتراب لدى الفرد يكون أكثر افتتانًا بالعوالم المُتخيّلة؟ أو أنّ التعدّدية المعرفية في الرّواية هي العنصر الأساس في انتشارها؟ وهل يريد القارئ من خلال الالتحام بالكون الروائي تعويض محدودية حياته؟. وفيما يخص الشغف في سرد الحكاية يقول أنّ الرّغبة في سرد الحكاية وتلقيها، متأصلة في الذّات البشرية وهذا ما جاء على ذكره حبيب سروري في مقابلة له، أنّ حاجتنا للرواية كبشر جينية، أتية من أيام هوموراناس أي (الإنسان الحاكي) يعني ذلك أن حاجة الإنسانية للحكي والرّواية حاجة عضوية. وفي ظل اختلاف الأراء حول الدّافع لقراءة الرّواية هل المتعة فقط؟ أم يمكن أن تقدّم المعرفة، وأن تكون فوائدها لا تقتصر على المتلقي فقط بل تساعد الكاتب على هضم تجربته الذاتية؟ ليخلص الكاتب إلى أنّه لا يجوز تجاهل اختلاف مستويات التلقي، والفرق بين الذائقة الحسّاسة والسّاذجة في إدراك العمل الروائي.

كهف القارئ، هو كهفٌ محتشدٌ بالنّور، كتاب لافت فيه زخم معرفيّ ينم عن ثقافة الكاتب وخبرته، ووعيه لخصوصية العمل الرّوائي، كما ينم عن درايةٍ واسعة ٍوفكرٍ نيّرٍ، وفهم عميق لإشكاليات الكتابة والنقد، إضافة إلى الرّؤية الواضحة النقيّة في زمن يتعرّى من الوضوح والشفافيّة، ويسوده الظلام و الضبابية. هذه الرؤية التي قام بتسريدها بين دفتي الكتاب، واخترق من خلالها كهف القارئ، كما جاءت لغة الكتاب سهلة بسيطة، لنجد أنّها لم تُثقل بالحشو أو باستخدام الكاتب لمصطلحات يصعب على القارئ فهمها، إضافة إلى تميّز أسلوب سالار بالرشاقة في طرحه للأسئلة و بالانسيابية في عرض الأفكار وفي تنظيمها.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

بالصور| تظاهرات حاشدة أمام وزارة التخطيط للمطالبة بتعديل سلم الرواتب

805 قتلى وجرحى بأعمال شغب مستمرة في بنغلاديش

مجلس النواب يعقد جلسته برئاسة المندلاوي

خبراء يحذرون: أغطية الوسائد "أقذر من المرحاض" في الصيف

القبض على 7 تجار مخدرات في بغداد وبابل  

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram