TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > الامبراطوريات وأقدارها

الامبراطوريات وأقدارها

نشر في: 21 مارس, 2023: 11:54 م

د. حسين الهنداوي

1-4

تغري التجربة التاريخية لعدد من دول وامبراطوريات العالم القديم الشرقية والغربية على حد سواء (أشورية، بابلية، اخمينية، مقدونية، رومانية، اموية، صليبية، مغولية...الخ)، بإعادة قراءة وتأمل السمات والحيثيات العامة لمراحل تطورها الممتدة بين مرحلتي الولادة والزوال،

وتسلسل كل مرحلة منها وخصوصيتها ضمن المسار العام للتاريخ البشري، بهدف استخلاص "العبر" و"الدروس" النظرية الكبرى منها، على ضوء منظورات "فلسفة التاريخ" بتياراتها المتعددة التي تعنينا، ونتبنى بعض مفاهيمها بطريقتنا، بشأن تسلسل الأطوار الطبيعية لحياة الدول والمؤسسات، كما عند ابن خلدون او هيغل..، على مبدأ ان الإمبراطورية او الدولة، كالكائن الحي، تولد وتكبر، ثم تزدهر وتهيمن، ثم تهرم وتفسد، وأخيرا تموت، ومثل ذلك عصبياتها التي هي "روحها"، لتولد من وعلى انقاضها امبراطورية جديدة، بعصبية جديدة، وهكذا دواليك.

فالتاريخ الخاص كل منطقة او "أمة" هو سلسلة متعاقبة من الدول والعصبيات، تمر كل واحدة منها في ذات الدورة التطورية التعاقبية المذكورة اعلاه، فيما يتشكل التاريخ البشري العام من سلسلة دول او تشكيلات تتوالى وتتواصل بشكل حتمي، في اطرها الموضوعية الملموسة، وحيث كل دولة تولد في رحم الدولة السابقة عليها وتقتات من رحيقها ثم تزيحها، فتزدهر وتهيمن قبل ان تشيخ وتبلى وتدفن دافعة ثمن هذه السيرورة من التطور، هي ايضاً، في خضم هذا المصير الكوميدي-التراجيدي القاهر والشامل للجميع دولا وامبراطوريات وعصبيات. فالتاريخ مصنوع بأيدي البشر.. لكنه ليس مصنوعاً بوعي او ارادة منهم بل بإرادة قوة ما خارج إرادتهم وكذلك سياقاته وحيثياته اليومية الملموسة.

المدهش، عبر قراءة للتاريخ بأثر رجعي هنا، ان الإمبراطورية البابلية الحديثة (وتسمى الثانية ايضاً)، كان لها، على صعيد التاريخ الفعلي، العمر الطبيعي للأشخاص تقريبا، نحو قرن فقط، بين ولادتها في حوالي 627 ق.م، على يد الزعيم البابلي الكلداني القوي والطموح نبوبلاصر (658- 605ق.م)، وبين انهيارها المأساوي المثير والنهائي في عام 539 ق.م، امام قوة وعصبية اجنبية زاحفة بقيادة احد اتباعه سابقا هو الملك كورش الكبير (560-529 ق.م،) الزعيم الفارسي الاخميني الذي اقام مثله، ومن لا شيء ايضاً، امبراطورية عالمية مترامية الأطراف امتدت من البلقان في قلب اوروبا الى نهر السند في قلب آسيا مرورا بآسيا الصغرى وسوريا ومصر وبلاد الرافدين مجتازةً نفس مسار التطور الذي تقدمه النظرية الخلدونية للدولة، قبل ان تتحطم، هي الأخرى كالهشيم وبشكل نهائي، امام قوة وعصبية اجنبية زاحفة كالإعصار هي أيضا بقيادة الاسكندر المقدوني الذي سيبني بدوره امبراطورية عالمية أوسع واعظم، الا انها ستقطع نفس ذلك المسار القدري نحو ازدهارها ثم نحو فسادها فانهيارها المأساوي لتعقبها على نفس المسار الإمبراطورية الرومانية، فالاموية وهكذا دواليك..

وبالفعل، ففي مرحلتها الأولى عرفت الإمبراطورية البابلية الحديثة على يد مؤسسها نبوبلاصر نموا مضطردا على مسرح التاريخ الإقليمي والعالمي استمر نحو ربع قرن، ثم عرفت مرحلة ازدهار عظيم على كافة الأصعدة تحت قيادة ابنه نبوخذ نصر(634 – 562 ق.م)، لتصبح لحوالي خمسة عقود من الزمن اهم امبراطورية في العالم القديم، قبل ان تدخل حال وفاته، في مرحلة تراجع وخمول، اعقبها تدهور على كافة الأصعدة تقريبا، فتآكل بطيء نسبياً قبل ان تنهار كلياً خلال فترة زمنية استمرت نحو ربع قرن أيضا توالى على العرش خلالها اربعة ملوك ضعاف من ورثته قتل احدهم الآخر ليختم المشهد بزوالها نهائيا في عام 539 ق.م، في معركة بلا قتال في الواقع مع اتباع كورش.

وهكذا، فقول ابن خلدون في "المقدمة"، "أن كل دولة لها حصة من الممالك والأوطان لا تزيد عليها"، يصدق على هذه الإمبراطورية البابلية الحديثة وقبلها على الامبراطوريات الآشورية والفرعونية وبعدها الاخمينية فالمقدونية.. الخ، كما على غيرها من التشكيلات المماثلة بما فيها الحديثة والمعاصرة في رأينا والتي تحتاج الى دراسات معمقة ورصينة بداهة كالامبراطورية العثمانية والامبراطورية السوفييتية والامبراطوريات الامبريالية البريطانية والفرنسية وحتى الامريكية.. مع فوارق شكلية او طفيفة.

وكذلك قوله ان لكل دولة عمراً معيناً بدقة، لا تستطيع زيادته، هو، في الجوهر، عمر عصبيتها الخاصة، التي مثلما لدى الكائن الطبيعي، تنتقل من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الشباب ومن هذه إلى الرجولة، فالكهولة، فالموت. اذ ان "الدولة لها أعمار طبيعية، كما للأشخاص"، وان هذا العمر محدود بمائة وعشرين سنة تقريباً، تنقسم داخلياً إلى ثلاثة مراحل أو أجيال، هي مرحلة الولادة والنشوء، تليها مرحلة القوة والازدهار، ثم تأتي، بعد هذه، مرحلة الفساد والانقراض.

وأيضا يتوزع عمر الإمبراطورية البابلية الحديثة البالغ نحو قرن (276- 539 ق.م) الى ثلاثة مراحل او اجيال هي مرحلة نبوبلاصر أولا، فمرحلة نبوخذ نصر، ثم مرحلة اميل مردوخ/نبونائيد، قبل السقوط المدهش لتلك الامبراطورية اثر هزيمها العسكرية امام قوات كورش في معركة أوبيس، وهو العمر الذي عناه ابن خلدون بقوله "ولا تعدو أعمار الدول في الغالب ثلاثة أجيال من البشر"، وان هذه الاجيال تتباين في ما بينها كما يلي: "الجيل الأول، لم يزالوا على خلق البداوة، وخشونتها وتوحشها، من شظف العيش والبسالة والافتراس والاشتراك في مجد بنائها... والجيل الثاني، تحول حالهم، بالملك والترفّه، من البداوة إلى الحضارة ومن الشظف إلى الترف والخصب... فتنكسر سورة العصبية بعض الشيء، لكن يبقى لهم من ذلك بما أدركوا الجيل الأول. وأما الجيل الثالث، فينسون عهد البداوة والخشونة، ويفقدون حال العز والعصبية، بما هم فيه من ملكة القهر... وتسقط العصبية بالجملة... حتى يأذن الله بانقراضها، فتذهب الدولة بما حملت".

وبالطبع، لا يقتصر هذا التماثل على الطابع الخارجي لأطوار الحياة الطبيعية للدولة، إنما يمتد ليشمل المضمون العام لكل من لحظات السيرورة تلك. إذ إن الدولة حسب ابن خلدون "تنتقل في أطوار مختلفة وحالات متجددة، ويكتسب القائمون بها، في كل طور، خلقاً من أحوال ذلك الطور، لا يكون مثله في الطور الآخر... وحالات الدولة وأطوارها، لا تعدو، في الغالب، خمسة أطوار متشابكة. الطور الأول: طور الظفر بالبغية وغلب المدافع الممانع، والاستيلاء على الملك وانتزاعه من أيدي الدولة السالفة قبلها... الطور الثاني: طور الاستبداد على قومه والانفراد دونهم بالملك... الطور الثالث: طور الفراغ والدعة لتحصيل ثمرات الملك، مما تنزع طباع البشر إليه، من تحصيل المال وتخليد الآثار وبعد الصيت، فيستفرغ وسعه في الجباية وضبط الدخل والخرج وإحصاء النفقات والقصد فيها، وتشييد المباني الحافلة والمصانع العظيمة والأمصار المتسعة والهياكل المرتفعة... وهذا الطور هو آخر أطوار الاستبداد من أصحاب الدولة... الطور الرابع: طور القنوع والمسالمة... الطور الخامس: طور الإسراف والتبذير، ويكون صاحب الدولة، في هذا الطور، متلفاً لما جمعه أولوه.. مخرباً لما كان سلفه يؤسسون، وهادماً لما كانوا يبنون، وفي هذا الطور، تحصل في الدولة طبيعة الهرم، ويستولي عليها المرض المزمن إلى أن تنقرض".

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق منارات

الأكثر قراءة

شعراء الأُسر الدينية.. انتصروا للمرأة

العمودالثامن: فاصل ونواصل

كيف يمكننا الاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟

العمودالثامن: حين يقول لنا نور زهير "خلوها بيناتنه"!!

شراكة الاقتصاد الكلي والوحدة الوطنية

العمودالثامن: متى يعتذر العراقيون لنور زهير؟

 علي حسين إذن، وبوضوحٍ شديدٍ، ومن غير لفٍّ أو دوران، لا تنتظروا إصلاحات ديمقراطية ولا حلاً للأزمات السياسية التي ما أن تنتهي واحدة حتى تحاصرنا واحدة جديدة ، ولا تطمئنوا لأن الإعلام يزعج...
علي حسين

قناطر: السَّرّاجي: القرية والنهر والجسر

طالب عبد العزيز " ثمة قليل من الاغريق في سان بطرسبورغ "جوزيف برودسكيكثيراً ما أسأل نفسي: أيمكن أنْ يكون الشاعر مؤرخاً، أو كاتباً لسيرة مدينته؟ فأجيبُ: أنْ نعمْ. ولعلي الى الثانية أقربَ، فأنا ممسوس...
طالب عبد العزيز

في طبيعة المجتمع المدني في الدولة الديمقراطية ومهامه

د. فالح الحمـراني تطرح قضية تفعيل المجتمع المدني في العراق اليوم نفسها بصورة حادة، لا سيما على خلفية تقصير المؤسسات المنتخبة وأجهزة الدولة في أداء دورها المطلوب حتى في إطار القوانين المتعارف عليها في...
د. فالح الحمراني

الاقتصاد الهندي من التخلف إلى القوة الاقتصادية

موهيت أناند ترجمة: عدوية الهلالي منذ أن بدأت الإصلاحات الاقتصادية في عام 1991، عندما تخلت عن نموذجها الاقتصادي الحمائي والاشتراكي، أصبحت الهند ثالث أكبر اقتصاد (بعد الصين والولايات المتحدة) من حيث الناتج المحلي الإجمالي.،...
موهيت أناند
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram