اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > عبدالرحمن الربيعي.. أية حياةٍ هيَ

عبدالرحمن الربيعي.. أية حياةٍ هيَ

نشر في: 25 مارس, 2023: 09:00 م

علي حسين

" لقد أردت أن أنتشل روحي النادبة المسحوقة التي لا تعرف السلام, لست نبيا ولكنني إنسان إعتيادي لطخته الصفوف بشعاراتها وتهريجها و قادته إلى عهرها, فهدرت صحتي وشبابي و اليوم أحاول أن أجد الأمان، هذا كل شيء ". رواية الوشم

عندما رأيته أول مرة كان ذلك قبل اكثر من أربعين عاما، وكنت يوم ذاك شابا ضامرا، مهووسا بالكتب، وكان هو نجما ادبيا اصدر عددا من المجاميع القصصية والروايات قرأت بعضا منها، لكن ذاكرتي ظلت تحمل في طياتها شخصية " كريم الناصري " في رواية " الوشم "، وشخصية " احمد البطل" في مجموعته القصصية " ذاكرة المدينة "، بعد ذلك ساكتشف ان كريم الناصري هو عبد الرحمن مجيد الربيعي، وان " احمد البطل " كانت حكاية الناقد والمؤرشف المسرحي احمد فياض المفرجي، والذي كان اقرب الاصدقاء للربيعي، كان المفرجي الذي عملت معه لسنوات في دائرة السينما والمسرح قد فتح لي الباب لمعرفة الربيعي جيدا، قال لي ان الربيعي بارع في استعارة حياة الآخرين والتلصص على خفاياهم. روايته الاولى الوشم الصادرة عام 1972 تنسخ حياة مجموعة من اصدقائه المقربين، لم يصدق المفرجي ان عبد الرحمن الربيعي سيسجل في ذاكرة المدينة همسات وخطوات الاصدقاء التي يستخدمها الربيعي في قصصه ورواياته، واثارت قصة احمد البطل غضب المفرجي وطلب من صديقه ان يبقيه خارج قصصه.. القارئ لاعمال عبد الرحمن الربيعي سيكتشف ان هناك ذاكرة يقظة تتسلل من بين الصفحات، يرى القارئ من خلالها الماضي الذي لايريد ان يغادر، ويتعرف على الوجوه والشوارع والمدن، ويرى الناصرية وبغداد مدينتان تسكنان في ذات الكاتب، وتتحولان الى مرايا ينظر اليها كلما اراد البحث عن الوجوه التي غابت، لكنها لاتزال حاضرة في الزمان والمكان. يعترف انه كاتب صنعته تجاربه الحياتية، وان هذه التجارب ظلت منحازة الى الجانب المضيء في الانسان.

ظهور عبد الرحمن مجيد الربيعي في المكتبة التي كنت اعمل فيها في احد ايام عام 1979، شجعني لان اطرح عليه عددا من الاسئلة كانت تشغل بالي منذ ان قرأت روايته الوشم، لكن مظهره الخارجي كان يوحي لي آنذاك بانه شخص صعب وصارم، إلا ان هذا الانطباع سرعان تغير، لأجد نفسي امام رجل يعشق الحديث والحياة قدر عشقه للفن التشكيلي، فالربيعي المولود عام 1939 في مدينة الناصرية، كان يحلم ان يصبح رساما، يتذكر ان اول مقال نشر له كان حول الفن الحديث انتقد فيه سريالية سلفادور دالي، واشاد بتجارب الرسامين العراقيين، جواد سليم واسماعيل الشيخلي وسعد الطائي، ونرى كيف ان قراءاته الماركسية وانتماءه السياسي طغت على مفهومه للفن حيث كتب: " ان فننا يجب ان يكون فنا بناءا ملتزما قضيته حتى يسمع صوت الاشتراكية " – مجلة الاقلام 1964 -. قلت للربيعي بعد ان تفتحت اساريره وهو يحتسي " استكان " الشاي " الذي طلبته له: من هو كريم الناصري؟ ، اثار السؤال استغرابه وهو يقول لي: هل قرأت الوشم؟ وقبل ان اجيب قال انا كريم الناصري وايضا لست كريم الناصري، فانا بطل الرواية، لكنني لم اكتب سيرة ذاتية، رحت انصت للربيعي فوجدت نفسي امام حكاء مميز يتدفق بحكاية الوقائع والاحداث فتتناسل الحكاية من الحكاية. قال لي ان كريم الناصري مثل الوشم الذي دمغ جلدي بحيث لم يستطع الزمن ان يمحيه، قد اخطأ، لكنني لا اتغير، قلت له: بطل رواية الوشم يذكرني ببطل رواية اسماعيل فهد اسماعيل " كانت السماء زرقاء "، والذي كانت حياته سلسلة من الهروب المتواصل، الهروب من كل شيء، حتى من نفسه، لمحت في عينيه لمعة كأنه يتذكر زمن ساحر ليقول: " كنا جيل سحرته الوجودية وانا من جانبي اغرمت بكتابات سارتر والبير كامو ، وكنت اقرأ كل ما يتعلق بالوجودية والتي كرّست ضغطها على تلك المرحلة من حياتي.

في الوشم حاول عبد الرحمن الربيعي ان يجعل من الزمن الخائب هو المدار والسلطة هي المحور، وكريم الناصري المبضغ الذي يُشرح جسد جيل الستينيات لتعبر عن معاناته، وكانت الرواية بصفحاتها التي لم تتجاوز المئة صفحة، تروي لنا حكاية المثقف الذي انخرط في الحركة السياسية دون ان يؤمن بالفكر الثوري الذي كان يتحدث عنه في المقاهي والبارات، كان يجد في السياسة نوع من انواع اثبات الوجود، لكن ما ان يتعرض لاول محنة حتى يكتشف زيف حياته السابقة: " جسدي ممد الآن في هذا المعتقل المحتشد مع هؤلاء الرجال الذين لا يتجانسون مطلقا في ثرثراتهم وشجاراتهخم اليومية التافهة، ولست ادري كيف انضووا تحت يافطة سياسية واحدة ". كان كريم الناصري حالما كبيرا، وكانت الثورة هي طريق الحلم، لكن تجربة السجن ستجعل منه شخصا آخر، انسانا يسخر من المثل العليا التي طالما نادى بها، ويجد ان السجن تحول الى وشم لم يدمغ جلده فقط، وانما دمغ افكاره واحاسيسه. يخبرنا بطل عبد الرحمن الربيعي ان حياته كانت خليطا من الحلم والجنون، ونجد عبد الرحمن الربيعي الشاب الذي تخرج من معهد الفنون الجميلة عام 1959 عاش حياته تختلط فيها الاحلام بالامال، المعلم المهووس بالفن التشكيليوكتابة القصة يحاول ان ينقل شغفه الى طلبة المدرسة التي عُين فيها عام 1960، سيجد نفسه منخرطا بالعمل السياسي وباحلام مجتمع العدالة الاجتماعية، لكن مع اول امتحان حقيقي يكشف كريم الناصري عن حقيقته ليعلن بصراحة: " لن اغير العالم، ولن اجعل الشمس تطلع من الغرب، فلماذا اضطهد هكذا؟ ماذا لو اطلقوا سراحي الآن؟ هل ساحمل السلاح ضدهم؟ ان اول عمل اقوم به هو الذهاب الى اقرب حانة لاسكر " – الوشم منشورات دار الطليعة -. انه يذكرنا باحد ابطال روايات سارتر عندما يصرخ " انني وحيد ". وبعد خروجه من السجن يكتشف ان هناك شيء قد مات في داخله، وعندما يتجول في مدينته الناصرية بعد يوم من اطلاق سراحه يجد ان الابنية والشوارع اصبحت غريبة عليه، انه تائه فيقرر السفر الى بغداد وما ان يضع جسده في القطار حتى يسمع صوت صديقه حسون يقول له:

- اتمنى ان تصحو ياكريم وان تعود الينا باقرب وقت.

- ولماذا اعود؟

كريم الناصري المتاثر بكامو وفلسفته يتحول الى سيزيف يحمل همومه وعار اعترافه في السجن على رفاقه، مثلما يحمل سيزيف صخرته، فيظل حائرا في وسط الطريق، يحاول الخلاص ويسعى لتحقيق ذاته، لكن عبر حياة توزعت بين احلام الحرية والثورة، وخيبات امل السياسة وحالة الياس والاحباط. لقد فشل في لبس ثوب الثورة واعلن انهزامه وهو الآن يحاول ان يجد نفسه.

في المقدمة التي وضعها لاول مجموعة قصصية نشرت له عام 1966 بعنوان " السيف والسفينة " يكتب عبد الرحمن الربيعي: " كنت زائدا، احني رأسي امام هزائمي، ولا اصافح الايادي ولا الوجوه الاخرى.. كنت اشتهي ان اقلع شعر رأسي واعمل مهرجا له اظافر طويلة وعيون خالية.. أسطو على اعماقي واوغل في تشويهها عندما اضع على رأسي صخرة منحوتة على شكل قرد فزع.. وكم حاولت ان اعلن براءتي من عبد الرحمن الذي يغتالني باستمرار ".

على مدى 60 عاما من القصة والرواية، عاش عبد الرحمن الربيعي، ضاجا بالحياة مخلصا للكتابة، جاعلا من الادب مبتغا وايقاعا حياتيا، لكن الحياة ادارت له ظهرها في سنوات عمره الاخيرة فتوقف الراوي عن الحكاية وتحولت الحكاية الى اشباح تطارد الروائي الى ان انتهت به الى الموت لتضع حدا لروايات وقصص كانت مليئة بالاحلام والآمال.. روايات وقصص نرى فيها انفسنا وخيباتنا وفشلنا وتقلباتنا ونزواتنا وضعفنا البشري.. قصص تسكنها وجوه وهامات رسمها الربيعي بريشة بارعة وصادقة وان كانت قاسية في بعض الاحيان.. وجوه ستظل مثل الوشم تدمغ جلد الادب الروائي والقصصي العراقي.

في قصيدته " اشتات حلم ساخن " يكتب

لا تتشبث بشيء

لا تنشدّ لشيء

تحتجب

تخبو

انتظارا لموتك القادم.

ــ عنوان المقال مأخوذ من مذكرات الربيعي والتي صدرت بعنوان " أية حياةٍ هيَ ".

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

بالصور| تظاهرات حاشدة أمام وزارة التخطيط للمطالبة بتعديل سلم الرواتب

805 قتلى وجرحى بأعمال شغب مستمرة في بنغلاديش

مجلس النواب يعقد جلسته برئاسة المندلاوي

خبراء يحذرون: أغطية الوسائد "أقذر من المرحاض" في الصيف

القبض على 7 تجار مخدرات في بغداد وبابل  

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram