لطفية الدليمي
كلٌّ منّا يعيشُ منذ ولادته داخل فقاعة. هي فقاعة محتومة لامفرّ منها، وليس من سبيل لتوسيع تخوم هذه الفقاعة أو الابقاء على حدودها القارّة إلا بجهودنا الذاتية. لاأحد سيفتح ثغرة لك في جدران فقاعتك. أنت وحدك من تستطيع فعل ذلك عندما تريد وتحاول رؤية مالم تره من قبلُ.
ماهذه الفقاعة؟ هي كلّ المحدوديات البيولوجية والمعرفية المفروضة علينا بفعل البيئة أو قوانين الوراثة الجينية. هي ليست عيباً. هي قانون محتوم في كلّ البيئات والثقافات. هناك من يستطيب العيش طوال حياته داخل حدود هذه الفقاعة ولايحرّك كوامن روحه شغفٌ بالتطلّع إلى (ماوراء ظلال التلال البعيدة). في المقابل هناك من لايقنعُ بالعيش المتبلّد القنوع والمكتفي بما رأى وبما شهد من خبرات تبقى محدودة مهما تعاظمت.
عندما أتأمل فقاعتي الذاتية تتملّكني دهشة وحسرة. مكمنُ الدهشة أنّ معظم ثقافتي الحقيقية والجادة إنما تحصلتها في السنوات الخمس عشرة الأخيرة من حياتي. ثقافتي السابقة لهذه السنوات كانت هوامش على حافات رؤية متسعة لطالما تطلّعتُ لها ولم أكن قادرة على الامساك بها. هل كانت قراءاتي قليلة آنذاك؟ أبداً. لم تكن قليلة رغم أنها تكاثرت وتشعبّت مواردها وحقولها المعرفية فيما سبق من سنواتي. هل كانت رؤيتي الثقافية ضيقة؟. نعم كانت ضيقة. كيف؟ بإعلاء شأن مالم يكن يستحق سوى نظرة عابرة أقرب لرؤية سائح في مدينة كوسموبوليتانية تعجُّ بالتفاصيل التي لايمكن الامساك بها. هذا في شأن الدهشة؛ أما الحسرة – رغم أنّ الحياة لاتحتمل الحسرات – فهي أنّ إعلاءنا لشأن العابر وغير الجوهري إنما فوّت علينا فرص الرؤية الأوسع والآفاق الأبعد.
أقرأ أحياناً مطارحات ثقافية منشورة فتعيدني إلى أجواء ثقافة عراق الستينات التي قد يمثّلُ نشر (بيان شعري) فيه، وكما يرى مدبّجوه، ثورة أقرب إلى ثورات الحداثة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى. هل هذه حقيقة؟ كلا، أبداً؛ لكنها رؤيتنا الضيقة التي إعتادت العيش وسط فقاعة (المحلي) و (الآني) و سطوة الخطاب الثقافي السائد وصانعيه.
تبدو لي الثقافة العراقية (والعربية إلى حد ما) مثل حفل بوفيه مفتوح لفترة محدّدة من الزمن. إستمرأ الآكلون في هذا البوفيه صنفاً واحداً من الطعام لايبدّلونه ظانين أنّه الأغلى والأطيب. ظلّ الشعر لوقت طويل (كافيار) الثقافة العراقية، وهناك بعضُ الآكلين غادروا قاعة البوفيه وسمعوا آخرين يتهامسون عن لذة أطعمة أخرى لم يتذوقوها؛ فعمدوا إلى العودة مسرعين ليتناولوا شيئاً من الاطباق الأخرى قبل أن يسدل الستار على دعوة البوفيه المفتوح. ثمة تزاحم وتناكب وفوضى وأصوات نميمة وهمهمات. هناك رغبة في تبديل المسار وسط تيه شاسع.
تريد تبديل مسارك وأنت لابث وسط فقاعتك التي لم يتبدّل معمارها ولم تحصل عليها صيانةٌ منذ ستينات القرن الماضي. هل ينفع هذا؟
لماذا لم تجرّبْ لقيمات صغاراً من أطباق كثيرة؟ حتى (الكافيار) الثمين سيغدو مع الزمن غير مستطاب.
لاأريدُ أن أكون قاسية مع نفسي أو سواي. نحنُ في النهاية لسنا كينونات معزولة لاتتبادلُ التأثير مع الخريطة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلد. لسنا معزولين، هذا صحيحٌ؛ لكنّ الصحيح أيضاً أن لانبقى أسرى قوانين الفقاعة واشتراطات العيش فيها.
ماأقسى تلك اللحظة التي يدرك فيها المرء أنه إعتاد لوناً واحداً من العيش والممارسة الثقافية داخل فقاعة لم يحاول يوماً أن يحطم جدرانها، وستكون تلك القسوة مضاعفة عندما تحصل في سنوات العمر المتقدمة عندما تضيق فسحة الزمن الباقية لكسر أغلال فقاعة عززناها بمادة الوهم وخداع الذات وسراب أفكار لم تكن أكثر من خيط دخان في ليل بهيم.