. عبد الجبار الرفاعي كاتب وباحث الجزء الأول لا تتسع مداخلة محدودة لاستقراء ودراسة وتحليل، تيارات واتجاهات ومدارس ورموز الإصلاح والتحديث في إيران، ذلك ان تأريخ إيران القريب يحفل بآراء وأفكار ومواقف ومنعطفات متنوعة، عبرت عنها الأحزاب، والجمعيات، والمنتديات،
د ومراكز الأبحاث، والمؤسسات المدنية، والجامعات، والصحف والدوريات، مضافا الى الحوزات العلمية، وشبكة رجال الدين المنتشرين في المدن والقرى والأرياف، ممن لا يغادرون المساجد والحسينيات، ويتخذون منها منابر للدعوة والإرشاد الديني، واستثمار الطقوس والشعائر المستمرة لتعبئة الجماهير، ودمجها بالشأن العام.كما ان للبازار دورا مميزا في الحياة الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، والثقافية، والدينية، والبازار هو السوق التجارية العريقة والعملاقة، المتوطنة في طهران وأصفهان ومشهد وتبريز وشيراز ويزد، وغيرها من المدن الكبيرة، وعادة ما يتمدد البازار ويتكرس دوره في الاجتماع الإيراني، مع تنامي الدخل وارتفاع المستوى المعيشي، وتطور المعاملات التجارية، وتداول الثـروة، وحركة رؤوس الأموال.rnان هذه الورقة لا تزعم انها تستوعب كل ذلك، وانما تحاول مواكبة مسار التحديث، والإشارة الى أبرز محطاته ومراحله، واستخلاص أهم اتجاهاته وتياراته، والتعرف على شيء من قراءاته للنص والتراث، واكتشاف بعض مقارباته للواقع، والتوقف عند المقولات والمفاهيم والآراء السائدة لدى رموزه، خاصة ما يتصل منها بتفسيراته للتمظهرات والتعبيرات والتجليات المتنوعة للدين في المجتمع. ذلك ان أية ظاهرة في الاجتماع الإيراني تحيل الى الدين، وعادة ما تتخذ الجدليات والنقاشات والآراء المتضادة في تفسير ظاهرة معينة، أو تبريرها، من الدين مرجعية لها. وغالبا ما يلوذ المتخاصمون بالأدلة والحجج اللاهوتية، والفتاوى الفقهية في شرعنة مواقفهم.والشخصية الإيرانية متدينة بطبيعتها، بمعنى انها شخصية باطنية، مركبة، طقوسية، مسكونة بالأسرار، تغرق بالتأمل، وتعشق التجارب الروحية، وتدمن الارتياض، وتتسم بالصبر والجلد، والمثابرة. وربما تعيش في حياتها العملية نمطا مدنيا حديثا، اي بعيدا عن المدونة الفقهية، لكنها في المجال الشخصي الخاص تنشد الزيارات، والمواجيد، والدعاء، ولا تكف عن طقوس عاشوراء، وتراجيديا مآتم كربلاء.كل ذلك مهّد الأرضية لامتداد نفوذ رجال الدين في مختلف الميادين الاجتماعية، وأتاح للحوزة العلمية التوغل في حياة الناس، وتقاليدهم، وعاداتهم، وأعرافهم، وثقافتهم، وتفكيرهم، ومنحها مكانة استثنائية، جعلتها الذروة والمرجعية العليا في المجتمع.rnبواكير التحديثبعد سقوط الدولة الصفوية في العقد الثالث من القرن الثامن عشر الميلادي (في2 173)، ظهرت عدة حكومات محلية قبيل الحكومة القاجارية، ففي الفترة (1736-1747) حكم نادرشاه المعروف بقسوته وغلظته، والافشاريون في خراسان، وكريم خان زند في شيراز (1175-1779). ولم تتمكن هذه الدويلات من بسط سيطرتها على كافة الولايات الايرانية. ثم بدأت سيطرة آقا محمد خان (1779-1797) مؤسس المملكة القاجارية، على الولايات بالتدريج، والذي تلاه في الحكم أخوه فتح علي شاه (1797-1834). وكان ولي عهده عباس ميرزا (1788-1833) حاكما على اذربيجان، ومقيما في تبريز. وقاد الأخير الجيش الإيراني في معاركه المريرة مع روسيا (1803-1827)، والتي انهزمت فيها إيران، واضطرت لتوقيع معاهدة كلستان (1813) بعد نهاية المعركة الأولى، ومعاهدة تركمان شاي (1827) بعد ختام الحرب والفراغ من المعركة الثانية. وأرهقت السلطنة القاجارية بمواثيق وشروط في المعاهدتين، لم تتخلص منها ايران إلا بعد ثورة اكتوبر في روسيا.شكلت الهزيمة جرحا عميقا لدى الايرانيين، وحفزت ولي العهد وقائد الجيش عباس ميرزا، المعروف بنائب السلطنة، للتفكير بجدية بأسباب انحطاط ايران، والسبل الكفيلة للنهوض بالمجتمع، وإصلاح حال الأمة، وساهم الموقع الجغرافي لتبريز، وارتباطها مع الدولة العثمانية، وروسيا وأوروبا، عبر (خوي- ارضروم- طرابزون) و(ايروان- تفليس)، في تعرف عباس ميرزا والنخبة المصطفة من حوله، على الأساليب الجديدة في اعداد الجيوش الروسية والعثمانية، فاستعارها لبناء الجيش الايراني، وحاول ان يقتبس حتى نمط الملابس العسكرية للجنود والمراتب في جيشه، بالرغم من ردود الأفعال السلبية، ممن استهجنوا ارتداء المؤمنين لباس الكفار المماثل للجيوش غير المسلمة. كما حرص على ابتعاث تلميذين الى فرنسا اولا، وبعد قطع العلاقات بين فرنسا وايران، بادر السفير البريطاني لقبولهما في لندن (1809-1810). وعاد حاجي بابا افشار الى ايران ليعمل طبيبا لعباس ميرزا، فيما توفي التلميذ الآخر محمد كاظم في لندن. وبعد ثلاث سنوات ارسل الى لندن أيضاً خمسة اشخاص، احدهم هو ميرزا صالح شيرازي، الذي مكث هناك ثلاث سنوات وتسعة اشهر، وكتب رحلته وانطباعاته عن الحياة الغربية، وسجل الكثير من التفاصيل والمفردات عن التقدم الأوروبي ونظام الحكم.وكان تلميذ آخر من هذه المجموعة قد اقترن بفتاة انجليزية، ولعل هذا أول زواج رسمي معروف بين رجل ايراني وامرأة أوروبية. وتداولت السلطنة القاجارية وقتئذ مع محمد علي باشا لإرسال خمسين تلميذا الى مصر، ولم
أزمنة التحديــث فــي إيـــران (1800- 1979)
نشر في: 2 أغسطس, 2010: 06:15 م