حيدر المحسن
كتبتُ عن عبد الرحمن مجيد الربيعي الذي غادرنا منذ أيام مرّتين في هذه الزاوية؛ والمقالان محفوظان في أرشيفي في "المدى"، ويمكن للقارئ العودة إليهما. في الأول قرنته مع حميد سعيد، وفي الثاني حاولت دراسة الفروق بينه وبين جمعة اللامي، وكانت ملاحظات عابرة ومركّزة عن عِشرتي مع قصصه ومقالاته في الصّحافة والأدب.
يذكر محمد زفزاف في مقال له عن إحدى مجاميع عبد الرحمن الربيعي القصصيّة، وكان الراحل بعثها له لمّا كان يقيم في تونس، وكان رأي زفزاف فيها سلبيّا للغاية، حتى أن الربيعي امتعض كثيرا من الحدّة في كلام القاصّ والرّوائي المغربيّ، وربما كانت تجمع بين الاثنين صداقة من نوع ما قطعها فجأة بعد ذلك، وكان ردّ زفزاف عليه أن الحقّ في الأدب يشبه الحُكم على الحقوق بين الناس أمام القاضي العادل، لا فرق بين القريب والغريب والحبيب إلّا بأن يأخذ كلّ ما له، ويؤدي ما عليه.
في جلسة في حديقة اتّحاد الأدباء جمعتني مع أصدقاء في إحدى ليالي الصّيف، وكان الناقد شجاع العاني حاضرا، دافع أحدنا عن (فلان) من القصّاصين على أن النقد لم ينصفه، وكان جوابي مفاجئا للجميع، بما فيهم الصديق العاني؛ قلتُ إن عددنا يبلغ تسعة، وأظن أننا قرأنا جميعا قصص (فلان)، وأطلب أن يروي أيّ منا قصّة واحدة له، أو يذكر شخصيّة واحدة من أعماله، أو اسم هذه الشّخصيّة أو عبارة قالها في الحوار أو جملة سرديّة أو وصفيّة، أو على الأقلّ عنوان قصّة له، شريطة أن لا يكون لها اسم المجموعة القصصيّة. لم ينقذ فلانًا أحدٌ ويأتينا بما يفيد جوابا لسؤالي. ما الذي كان يملأ به (فلان) مجاميعه القصصيّة التي تجاوز عددها أصابع اليدين وقدم واحدة؟ لم يكن يعمل طوال عمره في الحقيقة غير أن يسوّد الصّفحات بنصوص مختلطة التّركيب والمعنى ولا تصلح أن تكون تمارين في أيّ من فنون الكتابة.
العبارة الشّهيرة للنّاقد عبد الجبّار عبّاس لا تزال تتردّد في صدري منذ قرأتها أول مرّة قبل عقود؛ "النّاقدُ ليس دلّالا"، بمعنى أنه لا يمتلك أدواتٍ تتوفّر في سوق النّخاسة، ومنها القابليّة على إخفاء العيب أو إظهاره للملأ، أو اللعب على الحبلَين. كما أن هناك ما يمكن أن ندعوه بالنقد الدبلوماسي، وضرره أكثر من نفعه، لأن القارئ لا يتبيّن جانب الصحن عن جوفه، فيمدّ يده إلى الفراغ ويحسبه ثريدا. أنقل من حسين مردان هذه الفكرة، وهي تفيدنا في هذا المجال كثيرا: "النقد البنّاء لا علاقة له بسحر الإشاعة وجمال الدسّ المشبوه بواسطة الملاحظات المغرضة، وليس له أيّة صلة بكيل المديح والتّصفيق. إن النقد هو زراعة الضوء فوق المناطق المظلمة لرؤية الخطر الذي لا شكل له".
لم يكن عبد الرحمن الربيعي (فلانا) الذي احتدم يومها النقاش عن اسمه في الأدب العراقيّ في تلك الجلسة، فقد وجّه فريق من النّاقدين أضواء بحوثهم على الربيعي في زمن مضى وانقضى، وجاءت روايته الأولى (الوشم) ومعها ما يشبه الصيحة في دنيا الصحافة والنقد، ثم انطفأت فجأة جميع الأضواء الكاشفة عن أدب الربيعي. لا أريد هنا تقليل قيمة إنجازه الأدبيّ، لكني أقول إن أعماله المنشورة بعد (الوشم) لا تعين القارئ كثيرا في أن يتبيّن موقع قدميه على الأرض، ولا يديه، وأين يدير رأسه كي يرى موقعه في الوجود، وهي الشّروط الأولّية التي على القاصّ تحقيقها للقارئ. يشبه عبد الرحمن مجيد الربيعي (فلانا) الذي حكينا عنه في حديقة اتّحاد الأدباء في بعض الوجوه، ويختلف عنه في أخرى، وحسبي أني وضعتُ يدي في هذه العُجالة على البعض الأول من الرّبيعي الرّاحل.