اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > السرد غير الواقعي في رواية (ليالي ابن زول)

السرد غير الواقعي في رواية (ليالي ابن زول)

نشر في: 1 إبريل, 2023: 09:57 م

د. نادية هناوي

اذا كانت المحاكاة تعيد تخليق الواقع، فإن خيالية السرد غير الواقعي تعني تخليق واقع له وجه قبلي يحاكي قفاً بعدياً.

وبالوجه والقفا يشكل المؤلف الحبكة بالتخييل الذي فيه اللغة داخلة في الدائرة الزمانية وهدف السارد أن (يقول) ما قام البطل بفعله، لا أن (يحاكي) ما قام به من فعل مما اعتاد السرد الواقعي تصويره. ولا ذات في السرد غير الواقعي هي ذات المؤلف ولا ذات أخرى هي ذات السارد، بل هما واحدة تمثلها ذات مفكرة في ما هو غير مفكر فيه أي غير معقول. فتتلاشى أهمية الفصل بين الذاتين من جهة وتتوكد من جهة أخرى هوية السارد كحكاء يستعمل عناصر سردية غير طبيعية.

وتتسع تمثيلات خيالية السرد غير الواقعي لتشمل النصوص السيرية والمذكراتية التي فيها تكون العلاقة المنطقية بين السارد والمؤلف والنص والقارئ علاقة غير معتادة او غير تشاركية، تجعل صدقيتها هشة وغير موضوعية، مما يتطلب من القراء جهدا في التفسير يمكنهم من إدراك ما في هذه النصوص من مواقف ممكنة ومحتملة مع أنها تبدو غير معقولة او غير حقيقية.

وكثيرة هي النماذج القصصية والروائية التي تجسد السرد غير الواقعي، ولها أساليبها الخاصة في محاكاة الواقع الموضوعي. ويظل الأساس الأهم في السرد غير الواقعي هو الخيالية التي بها يتمكن من الانحراف عن أعراف العالم التي يعرفها كل من المؤلف والقارئ. وقد يستبعد تلك الأعراف أصلا. وهذا الاستبعاد للأعراف هو ما وجده "كريستوفر دي كيلجور" في ثلاث روايات مذكراتية هي(موس Maus) لارت سبيلجمان، و(بيت المرح) و(هل أنت أمي؟(لأليسون بيكدل.

إذ على الرغم من وجود عناصر واقعية فيها، فإن الخيالية تتخللها بطريقة غير مألوفة في السرد الاوتوبوغرافي. مما يفضي بالقارئ إلى عدم تقبلها والاقتناع بأحداثها أو التعاطف معها إلا بعد استدعاء سلسلة من العمليات يتحول خلالها الغموض أو عدم الفهم من اللاممكن إلى الممكن وتتحقق عملية تبادل نصي في شكل تبريرات أو مفاوضات تفضي إلى الازدواجية بمعنى أنها من جانب توصف بأنها نصوص خيالية غير واقعية ومن جانب آخر تحمل القراء على المشاركة في التفاوض من أجل فهم ما هو غير معقول أو غامض فهما شعريا، فيه يحاكي السرد الروائي الواقع الموضوعي.

ولا خلاف في أن لعوالم القصص أهميتها، وهي بالطبع افتراضية لم تحصل بشكل مطابق لما حصل في الواقع ولكن من الممكن أن تحصل. ولهذا يصدقها القارئ ويضرب دي كيلجور مثلا على ذلك بقصة(العينان اللتان امتلك "The Eyes Have It") وفيها تنقل الجمل السردية كيف يمكن للعينين أن تتجولا وتشعرا وتتحركا في الغرفة أو تركزا النظر على مرأى الشابة بمعزل عن أجزاء الجسد الأخرى، وكأنهما تمتلكان هذه السمات السردية غير الطبيعية أو المصطنعة أو غير المحتملة؛ وهو أمر غير معقول بالطبع. ولكن كيف تندرج محاكاة أحداث غير واقعية في نصوص اتوبوغرافية داخل سرديات المذكرات والسير الذاتية والغيرية التي تعد من أكثر أصناف السرد واقعية وشهرة؟!

لا شك في أن هذه النصوص تقتضي تطابقا بين المؤلف والسارد أو ما يسميه المنظر الفرنسي فيليب لوجون (الميثاق السيرذاتي) بيد أن ذلك يمكن أن يكون على مستوى النصوص الخيالية كما هو حاصل على مستوى النصوص السيرية والمذكراتية، ومن ثم تكون العلاقة بين النص الخيالي والقارئ علاقة تعاطفية هي غاية في حد ذاتها، تغذي العملية التفسيرية وتسمح للقارئ إدراك ما في هذه النصوص من مواقف غير معقولة أو مواقف غير موضوعية هشة، يحتمل فيها أن يكون السرد محفوفًا ببعض المعوقات. ولا مناص للقارئ من إعادة بناء أوتوبوغرافية هذه النصوص الخيالية من الناحية النفسية مثلا او الاجتماعية بغية فهمها على أنها وقعت بالفعل.

ومن الروايات التي خرقت أعراف كتابة السيرة الغيرية وجعلت الخيالية هي الصيغة التي بها أملى صاحب السيرة الذي هو ميت على السارد الموضوعي قصة حياته رواية(ليالي ابن زوال) لكريم كطافة. وتتضح قصدية خرق التاريخية بالخيالية منذ مستهل الرواية التي فيها يقول المؤلف:(اخبرني الان روب غرييه: أنت غير قادر على تثبيت صور من ماتوا فالصور دائما في تحرك مفاجئ يزداد كلما حاولت تثبيتها) ويصنف المؤلف السيرة في شكل ليال وفي كل ليلة يلتقي صديقه الميت مسترجعا زمنا ماضيا ففي الليالي الأولى يستذكر حاله جنديا على ربية، ويصف بخيالية لا طبيعية كيف أن الموت كان يلازمه آنذاك(كان يرى قسيمات وأكفاً تطبق على رقبته ملامح كائن خارج من حكايات الجنود تبرق عيونه دون أن ينجلي شيء من حلكة الليل..حاول الصراخ غير ان الصوت كان هو الاخر خائفا ومحتبسا في طيات الحنجرة)

ويتضح ان اسم سارد السيرة الغيرية صفوان وأنه خرج من العراق بجواز سفر مزور وسمى نفسه (مختار) هاربا من الحرب، ومعه (خالد) هارب من الحزب. ولأجل توكيد الخيالية في السرد السيري يعمد السارد إلى ترك الاسترجاع للزمن الماضي والعودة إلى زمن القصة الحاضر من خلال حوارات خارجية تجري بين السارد وصاحب السيرة الميت(تذكرت أمرا نسيته الليلة السابقة أو للدقة انت من ابعدني عنه بقطعك السردي) أو قوله(ها أنت مرة أخرى تريد قطع السرد اتركني يا أخي وشأني. لك ما تريد)

وتتقارب مثل هذه المحاورات من عملية تحضير الأرواح وتزداد مع التقدم في السرد حتى إذا شارف سارد السيرة الغيرية على الانتهاء، تساءل مع نفسه في هذا المونولوج الذي فيه يبتعد السرد عن الواقعية ويدخل في الخيالية فيغدو صاحب السيرة شبحا ومترجمها مجنونا(أفكر الآن ماذا تراني فاعلا لو انهى ابن زوال روايته وعاد إلى عالم الارواح تعودت عليه..من هذا الذي سيصدق هذياني لو حاولت، ماذا تريد ان تقول يا هذا؟ روح تزورك في انصاف الليالي؟ انا الاخر لا اؤمن بعالم الارواح)

وإذا كانت الخيالية في السرد تتمثل في أن لا خط واضحاً بين الحياة والموت والسفر والهروب، فإن الحوارية هي التقانة التي بها تتعزز خيالية السرد السيري، فيتحدث الميت كسارد ذاتي عاد إلى الحياة من بعد أن أهيل عليه التراب(أنا الآخر كنت هاربا من هروب إلى آخر وبعد أن بلغت الهروب الذي لا هروب بعده بعد اخر كومة تراب اهالتها على حفرتنا الكبيرة تلك الالة الجبارة التي تسمونها شفل ارتحت من هروبي؛ القبر الجماعي هو نسختنا المحلية التي حاكينا بها بدعة العرس الجماعي لعلك لا تعرف عنها شيئا)

وحين يطلب المؤلف منه أن يكف عن هروبه أو أن يتركه وشأنه يرد السارد الميت قائلا:(سأكون نديمك سأنجيك من لعبة الاخيلة وسماجة الفكرة التي تولد لك كائنات مشوهة سأقدم لك بدلها كائنات مكتملة..لعلك تحسدني على ميتتي قد يكون معك حق اكره ما في الموت أن تترك وحيدا في حفرة على مقاسك اما ومعك المئات في مساحة رحبة من الأرض فهذا ترف لك أن تحسدني عليه) ولأن المؤلف كان بصدد أن يجعل سارده الموضوعي يتحدث عنه بحارا فانه يبوح بمشاعره المحبطة وهو يحاول مراوغة الفراغ وهنا يستغل السارد الميت/ ابن زوال فرصة شعور المؤلف بالإحباط ليعرض عليه عرضا سرديا مغريا وهو أن يترجم له سيرته، قائلا:(سيرتي كانت هي الاحتمال الاخر لمصيرك ذهبت انا ونجوت انت) ويطلب ابن زوال من المؤلف(انتظرني إذن في الليالي القمرية حاول التحدث عني بضمير الغائب ان استطعت.. أنت في كل الأحوال غائب ستريحني على الأقل من تقمص أناك دع التقمص لي واتبعني كما اتفقنا)

وتنتهي الرواية بطريقة طبيعية وقد وصل السارد إلى اللحظة التي فيها فارق صديقه خالد الذي قرر العودة إلى بغداد بحثا عن الحنان وقبلة الأم:(أتممت من ذاكرته كل أسماء المدن الاخرى وجه صيد وسؤال وحيد ظلا يهومان في ضباب رأسه وجه أمه وهل ستقبله القبلة الاخيرة؟)

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

بالصور| تظاهرات حاشدة أمام وزارة التخطيط للمطالبة بتعديل سلم الرواتب

805 قتلى وجرحى بأعمال شغب مستمرة في بنغلاديش

مجلس النواب يعقد جلسته برئاسة المندلاوي

خبراء يحذرون: أغطية الوسائد "أقذر من المرحاض" في الصيف

القبض على 7 تجار مخدرات في بغداد وبابل  

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram