اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > فاعلية النص.. سبباً في الخروج عن النسق

فاعلية النص.. سبباً في الخروج عن النسق

نشر في: 2 إبريل, 2023: 09:08 م

د. قيس عيسى

تعني (الفاعلية)، براينا، حضور المؤلف والقارئ بشكل يكاد يكون تبادلياً، كأن الفنان يزاول الفن بعين الناقد المتلقي.

بتوصيفٍ أدق كمُتلقٍ من صنف آخر. في هذه الحالة يؤدي العمل الفني وظيفة النص البصري كبديل للنص المكتوب. ففاعلية (نص الحياة الأكبر) تستدعي فناناً ذكياً يستبدل: الأدوات والأنساق والمهارات التي تقف عاجزة أمام ما تنتجه الأفعال الحياتية فيستعين بالفكرة المكثفة التي يقترحها موقف الفنان إزاء ما يدور في محيطنا المعيش.

فخروج (الفنان هاشم تايه) عن النسق في الفن بوصفه أحد الافكار البشرية التي أصابها التدنيس والتشويه وعلى الرغم من المخاطرة التي خاضها الفنان في نصوصه البصرية ذات البُنى السردية الواصفة لمفاهيم الحياة التي تشير إلى موقف تهكمي يعلن الاعتراض والتضامن معاً لكن كائناته بأدواتها البدائية وكثرة النصوص المكتوبة على أجسادها ما هي الا علامات القول دون جدوى من الفعل. فالفنان (هاشم تايه) وظف الرث والمهمل كأشخاص أي (أنسنتهُ) للرث والمهمل بهيئة بشرية لا قيمة لها. فالناجون من الحرب هم الشعب (الخاسر الأكبر)، معاقون عاجزون يستجدون ضمانات لحياتهم المتبقية.

فاستعارة الجسد البشري (كفاعلٍ ومُؤثرٍ فيه) إنما هي مُمارسة أخرى لخطاب التشكيل كي يكون الجسد هو أداة للقول، وهنا تبرز لغة التشكيل بتحويل علب الماء و بعض الأواني المهملة و ورق الصحف القديمة التي تحمل أخبار العراق التي تنمُ عن توتر دائم وخيبات، فبراعة الفنان وحسيته العالية حولت مفهوم التشويه والخلط بالمفاهيم والتشويه البصري إلى خطاب تشكيلي فكائنات الفنان (هاشم تايه) مضغوطة بفعل تسلط فعل الحر الشديد التموزي عليها فزاد من فعل لوعتها و انصهارها (الذي غالباً ما يكون سبباً لخروج المتظاهرين) فاستعان الفنان مصدر حرار صناعي وأذاب تلك المواد محاولاً الغاء قيمتها المادية والوظيفية ثم يعيد تركيبها بهيئة بشرية. هاتان المادتان تنفتحان مطواعتين على التشكيل كما تنفتحان على التأويل، فالفعل الصحافي الذي سَخّر أدوات القول والخبر، والكتابة ما هي الأصوات مشوشة، فالصحيفة الواحدة تضم أصوات وصور القاتل والضحية والمُلحد والمُتدين والسياسي والمثقف والخاضع والمتظاهر المُحتج، أي أنها أداة في أغلبها توافقية تحتكم الى المهنة الزائلة، لهذا هي مُتعددة الأوجه. أما سنغرافيا العرض فما هي الا فضاء وهمي حاوٍ لشخوص العرض، وهذه الشخوص ممكن تحريكها وتبادل الادوار فيما بينها في أي وقت فيتغير المعنى المضمر بفعل تغيير المشهد فمرة يبدو الشخوص متظاهرين ومرة أخرى يبدون كسياسيين مهزومين، أو رجال دين بهيئة أصنام أو مثقفين منزوين غير فاعلين يعيشون سُبات أحلامهم يضعون رؤوسهم في صفائح معدنية مغلقة وينتقدون كي لا يسمعهم أحد. كل هذه المفاهيم جسدها الفنان (هاشم تايه) في أجسادٍ مشوهة معطوبة كأنها كائنات توشك على الاضمحلال والانصهار ومتآكلة مهزومة من محيطها الرث والمهمل.

أما الفنان (ياسين وامي) فيقترح التشابه المختلف يشير إلى التهكم المستتر خلف أناقة وشعارات اللبرالية المعاصرة والديمقراطيات المُستبدة بأنظمتها الاقتصادية المُذلة للنوع البشري. خلف كل قناع توجد فخاخ كثيرة منها السلطة وقمع الحريات والتكنولوجيا المنتهكة للخصوصيات والصناعة التي قوضت قيم الانسان وتراثه وجمدت اخلاقه بسبب المنفعة مما وراء القصد والفعل. كي توظف هذه المفاهيم تحتاج إلى بيئة حاضنة وبدوره الفنان يختار بيئة أولاً تكون شكلاً بصرياً قابلاً للتشكيل والتأويل فأختار الفنان (شكل الهرم وشكل العمود الذي يستخدم كمسند للسقف في بناء البيت العراقي الشناشيل و الفأس و الكرسي و الطائر و قلب بشري) كل هذه المفردات تُساهم في تشكل الشكل البصري للمفهوم و المعنى، فالهرم في مفهوم الحضارة الفرعونية مكان لتحنيط السلطة الحاكمة و وأزلية العالم الآخر، يتولد المفهوم الذي يعبر عنه الهرم وهو الاحتواء للجسد و للفكر معاً، وأيُ جسد وفكر؟ هو جسد وفكر السلطة والحكم والهيمنة ... لكن الفنان أبتعد كثيراً بقطع الهرم إلى جزأين ووضع على أحد أوجه الهرم رسماً جرافيكياً بلون أسود لخفاش، كأنه إشارة لمكان مظلم أو عش تتكاثر فيه تلك الكائنات التي من صفاتها أنها مصاصة للدماء، وهذه النمذجة المفاهيمية للشكل و المفهوم تنفتح على التأويل خارج حدود النسقية التقليدية فالهرم المقطوع الرأس يُحيلنا إلى هرم الماسونية والخفاش يحيل إلى الشر وإلى موت الضحية ببطء، وكي يكتمل المعنى والاشارة يضع الفنان في النصف الأسفل من الهرم شعارات وصوراً (Logos) وألوان تشير إلى القوى العظمى التي لها الدور الكبير في الهيمنة على الشعوب واستعبادها. ولا يقف الفنان (ياسين وامي) عند المؤثر الخارجي فقط بل يحيل فعل التخريب أيضاً إلى الداخل أي إلى فعل الإنسان في بلده أو في نفسه، فيوجه ضربة بفأس إلى عمود من التراث العراقي وهو مسند للسقف وينبت ذلك الفأس في جسد العمود وهو فعل التحطيم و القتل بيد متخفية فهذه الآلة البدائية تشير إلى صنف القوم الذين يستخدمونها الآن وفي التاريخ القديم تدلُ على مدى ثباتهم وتخلفهم وعري تفكيرهم، وحتى يزيد الفنان من فعل العلامة جعل العمود بهيئة نسق مُشابه للحضارة الإسلامية المؤسسة على دحض العبودية كشكل بصري وفي الأعلى عيون فتاة من رسوم الحضارة السومرية المؤسسة للحرف الأول في العالم. كأن صوت حال الفنان نحن نقتل أنفسنا بواسطة هدم أرثنا الحضاري. أما الاثارة العاطفية وشدة الفعل الدرامي الذي أراد إيصاله الفنان للجمهور هو استخدامه للقلب المحزوز بتكرار على لوح واحد خشبي بحجوم مختلفة كأنها دراما منظمة رغم لونها الشاحب الميت الا انها تضج بالعويل والألم. حتى طريقة التنفيذ كانت بوساطة آلة صناعية وهي (CNC) لتخليص الفعل المعاصر للنتاج الفني من المهارة ومن تصرف الفنان المفرط في الحساسية قد يتعاطف أو قد يمثل ذاته فَيُهَيمن على المشهد، فالفنان (ياسين وامي) بهذا الفعل كأنه يرغب بتخليص عمله من سلطة الحداثة ومن عناصر التشكيل ويولي أهمية للفكر الفني الخلاق. وفي ثمية أخرى للكرسي والطائرِ المقطوع الرأس في هذا التشفير دلالة على ثبات المكان وهيمنته، فأحيل الكرسي إلى أعمدة وقضبان حديد كأنها سجن للطائر وقيداً للحرية هذه بحد ذاتها أيقونة معاصرة ومهمة توازي أيقونة بيكاسو في دلالة الحمامة على السلام. بل أشد تعبيراً عن الزمن المعاصر بمعمق دلالاتها وانفتاحها على التأويل. لذا يتصف هذا المعرض بكونه نتاجاً فكرياً إبداعياً معاصراً يكتنز الكثير من المفاهيم التشكيلية المعاصرة متضافرة مع الهموم البشرية المعيشة في زمننا المعاصر.

وحيث تباعد الفنانان (هاشم وياسين) عن بعضهما لكنهما التقيا على صعيد نسق مضمر يهيمن على ثيمات المعرض هو ثيمة (التهكم والاعتراض) التي غالباً ما تكون مدار التأويل والحديث اليومي لحالة الانسان المُعاصر. بمعنى أن الفنانين يعيشان الدور نفسه في الاستجابة لما يدور حولها كمتفرجين. كي تتحقق هذه الفرضية، كان ذكاء الفنانين سبباً في الخروج عن أنساق الفن لأنه ليس هناك زمان صحي لممارسة الفن بل ان منغصات الحياة فيها ما يكفي لعيش الألم وشحذ قوة التهكم لتعزيز فاعلية الاعتراض. والاصطفاف مع الجمهور دون الحاجة إلى تشفير المعنى أو إلى مزاولة انساق الفن الأوربي في حياة الشرق الأدنى الذي يستلذ بتناسل الموت فينا. فكل الذي حصل في هذا الفعل الحياتي اليومي هو خارج النسق، ليس هناك فولدر للمعرض وليس هناك اعلان أو ترويج اعلاني وليس هناك برستيج لجهة رسمية تحتفي بالصور لافتتاح المعرض. وانما هناك موقف أنساني صِيغ بهيئة نتاجات تمس الحياة بشكل عام وتصطف مع الجمهور أي أن الفنانين لهما حق الاحتجاج والاصطفاف مع أنفسهما ومع الانسان.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ليفربول يخسر وديا أمام بريستون

مجلس الخدمة ينشر توزيع حملة الشهادات والاوائل المعينين حديثا

البرلمان يشكل لجنة إثر التجاوزات على اقتصاد العراق وأراضيه

بايدن يرفض دعوات الانسحاب من الانتخابات الامريكية : انتظروني الأسبوع المقبل

وفاة محافظ نينوى الأسبق دريد كشمولة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram