اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > عاصم عبد الأمير: أعمالي تزاوج بين التشخيص والرمز وفيها الكثير مما هو متخيل

عاصم عبد الأمير: أعمالي تزاوج بين التشخيص والرمز وفيها الكثير مما هو متخيل

نشر في: 3 إبريل, 2023: 10:35 م

لم تولد جماعة الأربعة من رحم المؤسسة مثل ظواهر الفن العراقي يومذاك

أجرى الحوار/ علاء المفرجي

- 1 -

ولد عاصم عبد الأمير في مدينة الديوانية عام 1954، أكمل دراسته فيها عام 1971، درس في أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد وتخرج منها في عام 1979،

حصل على شهادة الماجستير في الرسم من جامعة بغداد، وعلى شهادة الدكتوراه في الفن الحديث من كلية الفنون - جامعة بغداد، عام 1997، حائز على جائزة الإبداع للدراسات الفنية من وزارة الثقافة العراقية، وجائزة لجنة التحكيم الخاصة في اللجنة الدولية للصليب الأحمر في بغداد، وحائز على جائزة الإبداع العراقية المقدمة من وزارة الثقافة عام 2011، يعمل أستاذاً في كلية الفنون الجميلة في جامعة بابل. شارك في العديد من المعارض التشكيلية في العراق، والأردن، والقاهرة، والامارات، والكويت، وسويسرا، وفرنسا وبعض الدول الأخرى.

أحد فرسان جماعة الأربعة، شارك في الكثير من المعارض التشكيلية المحلية والدولية، وله مؤلفات نقدية في الفن والتشكيل.

 ما أثر البيئة والنشاة الأولى على الفنان عاصم عبد الأمير.. وما هي المراجع والمصادر التي تقاطعت وطفولتك، والتي دفعتك لاختيار فن الرسم مستقبلا؟

- ثمة نزعة استعادية في رسومي بالإجمال وإن حدثت ازاحات بنيوية فلأنها تساير موقفي الثقافي والانساني إزاء ما يحدث في عالمنا المحيطي. بداياتي الفنية ترجع إلى مرحلة التأسيس الأولى حين كنت طفلاً ثم صبياً في ناحية الدغارة – الديوانية، تملكني هاجس المغايرة مع أقراني، إذ كنت أجيد الخط والرسم والغناء والتمثيل، ملكات كهذه تتزاحم كي تجد طريقها إلى الاظهار، لكن هاجس الرسم والكتابة والغناء لم يتراجع وإن غدا الرسم والكتابة في صميم شغفي، حيث ولدت في بيت من الطبقة الوسطى فيه مرسم ومكتبة، وكان أخي الكبير راسم ملهمي الأول، وهو المثقف والمترجم، كذلك أخي د. باسم الأعسم الناقد المسرحي المعروف.

كنت يومها أجاري رسوم من تقع عيناي عليها منها رسوم فائق، رمبرانت، ورسوم البورتريه في مانشيتات الأفلام العالمية والهندية ونماذج من الدراسات الواقعية للوجوه والحياة الجامدة والحيوانات المتوفرة في مصادر معدة لهذا الغرض.

منذ تلك السنوات، أدرت أنّ شيئاً ما سيحدث انقلاباً في شخصيتي المنجذبة لعالم الفن، بذلت جهدي برسم الكثير من الشخوص وأجواء المقاهي القريبة للمنزل مع السوق القديم في الدغارة، وبدت هذه النماذج التدشينية تعجب الأصدقاء، وعند اتمامي الدراسة المتوسطة اتجهت لمعهد الفنون – بغداد عام 1971، وقد أثنى الأساتذة على رسمي لنموذج جبسي يمثل فينوس وقبلت على الفور، لكن المانع كان نقص شهادة الجنسية التي لم تكن يومها بالسهولة المتوقعة فعدت أدراجي إلى ثانوية الدغارة، وقد اشتد عودي فيها بفعل أستاذة ملهمين لي منهم (باسم عبد الحميد حمودي، عقيل الأوسي، راسم الأعسم، رسول عبد الحسين). وأقمت معرضاً شخصياً على قاعة الاعلام في الديوانية عام 1972 ضمَّ العشرات من رسومي، وقد أثارت اهتماماً في الوسط الفني والثقافي، يومها كانت الدغارة تعج بالتيار اليساري والحوارات الثقافية، وهي المدينة التي يشطرها نهر الحلة إلى نصفين وعلى ضفتيه تلوح مشاهد النخيل والطبيعة بتحولاتها، حيث تشكلت طفولتي هناك، ومثلت تلك السنوات خزاناً رمزياً لصور شتى، هي الآن تمثل فصلاً من فصول مرجعياتي الجمالية والرمزية.

لقد زودتني تلك السنوات بمزيد من المشاهد التي لم تزل غير قابلة على المحو منها مشاهد الرعي ولعبة جر الحبل، وعازف الناي، والبيوت الآمنة المحاطة بالبساتين وحوارات الأصدقاء، ومشاهد التشابيه الحسينية، وحفلات الغناء، والعروض المسرحية، على قاعة مدرسة صلاح الدين، وما إلى ذلك.

بدت لي الدغارة فضاء لا نهائي مدني بطاقة إيجابية، يوم كان العراق، أمضى مدنية، وأبعد ما يكون من مظاهر النكوص الطائفي، الذي لم نكن نعرف عنه شيئاً. فإلى جوارنا كان لي صديق يهودي، وأقرب منه صديق صابئي، وتشكلت حينئذ خطواتي في عالم الرسم والكتابة بشكل متوازٍ، وبت أتجرأ بنشر أولى مقالاتي في صحيفة الراصد.

مع اتمامي للدراسة الاعدادية جذبتني أكاديمية الفنون الجميلة، حيث قبلت فيها عام 1974 وكانت مرحلة تمثل انقلاباً في سياق رؤيتي الفنية والشخصية والثقافية على السواء، لاسيما وأن أساطين الفن العراقي كانوا هناك ونهلت منهم الكثير، وقد حولوا الأكاديمية إلى ورشة إبداع في الرسم والنحت والسيراميك والسينما والمسرح. تتلمذت يومها على أساتيذ الرسم منهم (فائق حسن، خالد الجادر، حافظ الدروبي، فرج عبو، محمد غني حكمت، صالح القره غولي، اسماعيل الترك... الخ)، أربع سنوات من تراكم الخبرات والوعي المضاف ومشاهدات لا تحصى للمعارض والمسارح والسينما كفيلة بأن تبقي الشغف الفني في أقصى مدياته، يومها كان أستاذي فائق حسن يشجعني على إكمال دراستي العليا، وقد فعلت وقبلت على الفور، وأذكر حادثة لا تنسى، حين انقلبت المنشأة بركابها أثناء عودتي من بغداد وكسر عظم الترقوة، وامتحان الاختبار في العليا ليس ببعيد، جلبت رسومي الكثيرة، وبالكاد كنت أرتبها كي تخضع للتقييم، وعند دخول أستاذي فائق قال بصوته الجهوري: " هاي شجاي اسوي.. شيل الأعمال. مقبول ". ثم كانت رحلة الماجستير التي لا تنسى أيضاً. ازددت فيها ثراءً معرفياً وتطبيقياً حيث كتبت المزيد من المقالات في الصحف والمجالات العراقية، منها الأقلام، الطليعة الأدبية، آفاق عربية، الجمهورية، القادسية، أسفار... الخ. وأسهمت بتأسيس جماعة الأربعة مع (فاخر محمد، حسن عبود، والراحل محمد صبري) التي أقامت معرضها الأول على قاعة (كولبنكيان عام 1981) وقد وجد الجمهور فيه جيلاً جديد لديه ما يقوله.

مرَّ المعرض بسلام وكتب من كتب، وتجاهله آخرون، لكن الأربعة لم تكن حدثاً عابراً في ركب الفن العراقي، لهذا استمرت لتسعة معارض متتالية في بغداد، وابو ظبي. كنا جماعة وجدت نفسها على حين غرة في أتون حرب لا معنى لها أحرقت الأخضر واليابس ودفعتنا في هوة سحيقة قوامها الرعب والدم والخوف.

 تنتمي لجيل الثمانينيات. حدثنا عن أثر هذا الجيل في المشهد التشكيلي العراقي. وما هي الملامح الفنية هذا الجيل وتجلياته الابداعية. والذي يعده الكثير انه أحدث نقلة نوعية في مسيرة التشكيل العراقي، إن بالأسماء أو الظواهر؟

- يؤرخ لجيل الثمانينيات، مع معرض (جماعة الأربعة) الأول عام 1981 الذي حمل هواجس جيل جهد بشكل متواصل بتحييد ما أسميته ذات مرة بحداثة النمط التي خلفتها تجارب الستينيون على أهميتها قطعاً، ودورها الريادي، الا أنها ظلت تطوف في النسقية الأسلوبية التي بدأت تضيق كلما ذوت التجارب ورحل مؤسسيها.

الثمانينيون، أو جيل الحربين، كما أطلقت عليه ذات مرة جلب معه منظومة مفاهيمية وبنائية تختلف كلياً، فالحرب الضروس مع إيران ألقت بحمولتها الثقيلة لأن يحتفظ هذا الجيل بتمنع من نوع ما مع استبدال مرجعيات الخطاب وآليات الاشتغال وطرائق الأداء الفني، زد على الرغبة في فتح منافذ تؤمن للتجارب مجتمعة لأن تبدو أكثر غيرية ومفارقة.

وإذن، لم تولد جماعة الأربعة من رحم المؤسسة كما كان يحدث لظواهر الفن العراقي يومذاك عادة، مع المعارض التسعة كشفت بلا لبس عن مهاد واسع من التمنع الفردي في إحداث جلبة بلا توسل من المؤسسة الفنية التي كان يومها تعلو من الهتاف للدكتاتورية والحزب الأوحد والخراب الطويل، ربما لهذه الأسباب استطاعت جماعة الأربعة أن تحفر عميقاً في ذات الحركة التشكيلية ممهدة السبيل لمبدعين آخرين لأن يشقوا طريقهم لتأصيل هوية الفن العراقي، بلا وصاية من أحد أو حاجة لمشورة من نوع ما، فالسنوات الثقال التي جلبتها الحرب والقطيعة والحصار كافية لأن يعمق هذا الجيل أرضيته وكفاحه المشترك ويدفع بتجاربه قدماً على مبدأ الاختلاف لا الائتلاف.

الثمانينيون، ثلة من الفرسان الذين غيروا المزاج الجمالي للوحة العراقية وفتحوا أفقاً تعبيرياً أكثر اتساعاً مستشرفاً مداخل بنائية ومفاهيمية وأدائية تسمح للفن العراقي بالتمدد لمناطق لم تكن مؤهلة بما يكفي منها البحث في الأثر، الطفولة، التفكيك، ونقد الحرب، وما إلى ذلك. بما يبعدهم عن النزعات الأسلوبية السابقة قدر الإمكان، كما أنهم اسهوا في استبدال قيم التلقي بعد أن توارى فن الرواد إلى متحف الذاكرة. لم تكن جهود الثمانينيون تذهب سدى فقد شكل حضورهم النوعي في المعارض الشخصية والمشتركة، كماً وكيفاً صورة مشرفة حافظت على رمزية التشكيل العراقي، واستطاعوا بدأب إحداث لحظة تنوير ظلت إلى الآن ماثلة ويتعقب أثرها الدارسون ومتذوقي الفن.

 فنان وناقد، وكأنك ترد على من يعتبر النقاد هم من يفشلون في ان يصبحوا مبدعين.. هل تنشغل بالرسم بروح الناقد، أم تمارس النقد بروح الفنان؟ ما تعليقك؟

- وسم النقاد بهذا الاتهام السطحي لا قيمة له، ولا تعارض في أن يكون الرسام ناقداً أو العكس. ثمة تجارب تؤكد شيء من هذا. خذ مثلاً شاكر حسن آل سعيد، نور الراوي، ضياء العزاوي، عادل كامل، هناء مال الله.. صحيح أن للناقد ملكاته، وللفنان كذلك، وقد تجتمع في إرادة واحدة وتكون النتائج مبهرة، وقد يحدث خلاف ذلك، حيث تكون الموهبة أدنى مما هو متوقع.

شخصياً، أفهم أن النقد ليس قولاً على نص، أو كتابة على خطاب من أي جنس إبداعي كان، إنما نزال ينبغي أن يكون أكثر علواً على الخطاب، بحيث يستدرجه إلى المختبر النقدي ويعيد إنتاجه على فرض أن الفنان يقدم اقتراحاً يقابله اقتراح الناقد، واذا ما عرفنا أن الأعمال الكبيرة تحتاج إلى آراء كبيرة، كما يقال، فقد يحدث أن يكتب ناقد صغير على نص كبير ويجعله صغيراً بالضرورة.

على الناقد أن يجاري ما يبثه مختبر الفنان من شواغل وتحولات وكشوفات مع معرفة المسارات الأسلوبية وبيان تفردها من عدمه مع ضبط المنظومة الاصطلاحية مفاهيمياً، وابعاداً فلسفية وبنائية، شبكة من اللوازم هذه تدفع حكم الناقد لأن يصب في المسار الصحيح للرأي البات الذي قد يطال اقتراحات الفنان، وهي مهمة ليست يسيرة بالطبع.

إن مناهج النقد لا تحتمل الآراء التي تطلق على عواهنها والمغلفة بقش لغوي لا يصل بالنص النقدي إلى مراده، والناقد الجيد يمثل ضرورة تكافئ الخطاب والأخذ به إلى الاشهار، وقد يشوش الذائقة ويسوقها إلى مراتب متدنية من التقدير النقدي ويفقدها فرصة موازاة الخطاب ومطاردة خفاياه.

مهمة الناقد كما يبدو ليست يسيرة، وبعده أو قربه من بيئة الاشتغال وتحصنه بالمعرفة الواسعة نظرياً وتطبيقياً، كفيلة أن تجنبه الانزلاق في وهدة التهويمات اللغوية الفارغة والبعيدة عن منظومة التخصص التي يفرضها الجنس الجمالي موضع الحكم النقدي، لهذه الأسباب مجتمعة يصعب العثور على ناقد كفؤ إلا ما ندر، فالنقد مهمة شاقة وتمثل للفنان حافزاً لا مناص منه في تدارك مناطق التعثر والاحالات والنكوص الأسلوبي، مع الأخذ بالتصويبات النقدية التي تصيب أهدافها بلا مغالاة أو تزكية مجانية.

شخصياً، لست مع من يرى في النقد شيئاً فائضاً لا قيمة له. تذكر معي أن بيكاسو الذي قاد الفن الحديث طويلاً، كان يدرك مغزى الحاجة لرأي شقيقته مع انتهاء العمل بلوحة جديدة، فإذا وجدته لحظة امضاء اللوحة يرقص رقصته الأندلسية، فهذا يعني أن بيكاسو ليس بحاجة لرأيها، وإذا لم يمارس طقسه هذا فيستعين برأيها في لوحته.

كثيراً ما يكون الفنان ناقداً لتجاربه، فتبادل الخبرات بين الرأي النقدي وفعل الابداع ممكناً، وأجمل الأعمال هي التي تخرج من تصاهر وجهتا النظر. يحدث من هذا كثيراً لي، وأنا أمارس العمل الفني يومياً، تارة ابعد رقابة العقل النقدي، واجعلها تمارس سلطتها عن بعد، وقد يتدخل الناقد في داخلي لإحداث تغييرات تعيد للوحة صورتها النهائية، فالإبداع بلا نقد يدفعنا للإسراف في الثقة بالمشاعر فيما نفعل أو المبالغة، أو الاستعراض أو التكرار، وهي قيود تتحول مع تراكم التجربة إلى حواجز تعيق طلاقتها وتدفقها وتمددها معاً.

لهذا كله لست مع رأي تشيخوف الذي يرى في الناقد ليس أكثر من ذبابة في مؤخرة حصان. فالمبدع يتوارى بعد مقترحه الجمالي، فيما يصبح النص متحدثاً عنه بالنيابة، وقتها تبدو الحاجة للنقد بمعرفة كنه الخطاب ومنظومة الاشتغال، والملابسات التي ينوء بها، ثم الحكم على اتهامه أو تبرئته، حتى يأخذ النص الابداعي مكانه المناسب في فضاء الابداع.

 المتابع للوحاتك يلاحظ أنها واقعية مدعومة برمزية عالية أحيانا؟ واحيانا تفصح الرموز نفسها دون عناء المتلقي.. ما تعليقك على ذلك؟

- رسمت الكثير، وإذا ما عدنا إلى البدايات حتى الآن فإن الكثرة الكاثرة من الرسوم تقلبت في مناهج الفن، دون أن أحذو حذو أي منها. ثمة هواجس داخلية ومؤثرات شتى تدفع بالتجربة لأن تحافظ على توازنها، ومزاجها الفردي، بعيداً عن التوصيف للمنهج المتبع، فالتجربة تنمو كما النبات البري، لكنها تستبدل وجهتها وطرائق الأداء وتطلعها المفاهيمي مع كل لحظة مواجهة للبياض الذي يحمل معه اسرار التجربة.

فالمجمل فإن رسومي ليست واقعية بالمرة، لكنها محمولة على تداعيات الواقع بلا أدنى شك، ويندر أن يحدث لها أن تتقاطع مع تطلعها الشخصي، تراكيباً، وشخصيات وأبنية بصرية، فعالم الرسم من السعة ما يجعله يحتمل كل جديد. فقد زرت الأهوار ليومين، ورسمت مجموعة من الأعمال من وحي هذه الزيارة، وكذلك أظهرت تضامني مع ثورة تشرين، ورسمت لها العشرات من الرسوم، وهكذا على الرسام أن يتمتع بمخيلة مرنة تنسى أكثر مما تحفظ، فالنسيان يجعل منها قابلة للتحول، والبدء من لحظة صفرية على الدوام، ومعها قبول كل ما هو مدهش وغيري، في حين أن الحفظ يضيق المسالك ويعيد التجربة إلى الانغلاق، وهذا ما لا أحتمله.

رسومي بعدئذ، تزاوج بين التشخيص والرمز، وفيها الكثير مما هو متخيل، ولا أخفي مرجعية الواقع الذي يتحول مع التجربة إلى محض استدعاءات تفرض سلطتها على جغرافية السطح التصويري. ثمة كر وفر أمارسه مع الخزين الصوري الذي يتجدد على الدوام مع ما يحدث من حولي من مثيرات، حتى تأخذ المرجعيات تلك شكل أحاسيس يعاد تركيبها لحظة الرسم تارة بمكابدة وكد لا حدود له وفي أخرى بيسر، لهذا أُشبّه اللوحات بالنساء، فهناك لوحة مطواعة، وأخرى معاندة، واخرى تمارس الاغواء للسقوط في حبائلها، وأخرى ماكرة، وهكذا ترى معي كمية الشد والجذب بين الفنان وعوالمه، وبين السطح التصويري وضروراته.

ليس مجدياً جذب الواقع إلى اللوحة، فاللوحة واقع مفارق له ضروراته ومنظومته من وعي ولا وعي وحس وحدس وإزاحة وإضافة. الخ.

رسمت ضد الحرب، وبرزت رموز دالة عليها، أحياناً بتلميح وأخرى بتصريح، خلفيتي الريفية، كان لها الصدى في أعمالي، فهناك الأكواخ، ولعبة جر الحبل، وعازف الناي، والليالي المقمرة، والتكتك، وخيم المهجرين، وعازف الايقاع، ولوري النيرن الذي كنت أقله من الدغارة إلى الديوانية أيام الطفولة، وهناك صيادو السمك والمشاحيف... الخ. هذه الحزمة من المرموزات وغيرها تمدني بالطاقة للعب على ممكنات الأداء واستبدال طرائق النظر، ومن خلالها يمارس الخطاب غواية التلقي لمشاهد أحببناها وكادت تنسى في ثنايا الذاكرة، والاستعادية نزعة هامة للفنان تبقيه مستنفراً على الدوام، والرسام الناجح هو من يكون على أهبة الاستعداد، لاستقبال كل ما يلهب الاحساس بجمال التجربة وحيويتها. أتذكر أن عزرا باوند قال ذات مرة: (أن للفنانين قرون استشعار)، وهي التي تديم زخم الابداع أشكالاً ومضامين، والفنان الذي تتراجع عنده عوامل الحث ينكمش على نفسه، ويقع اسيراً في شراك الأسلوب، وكثر من تجارب الفن العراقي لم تنجو منها، وبدأت تلوك بتجاربها دون توقع ثورة تفجر الخطاب من جديد في كل لحظة ممكنة، فللفن ثوراته أيضاً، وإذا كان قد قيل أن الثورية في الفن ليس أن ترسم بندقية، إنما أن ترسم برتقالة بوضع معين، فإن على الفنان أن يبقى متأهباً وشفافاً في استقبال وتمثل المؤثرات.

"كلما اقتربنا من لوحات الفنان عاصم عبد الأمير، نشعر بأن طفولتنا ستعود قريبا" هكذا قال أحد النقاد عن اعمالك. ماذا ترى انت؟

- رأي أحببته كثيراً، فالعودة للطفولة مع تجدد المداخل لها، يسمح للوحة أن تشق طريقها في ذهن القارئ، ومعها يجد فرصة استعادة لحظات عصية على النسيان، دع عنك ما تحمله من تصورات نبيلة، وهواجس تظل معنا وتدفعنا إلى عوالم هي كل ما تبقى لنا، في عالم مليء بالكراهية، والمغالبة، والتطاحن.

رسوم الأطفال ملهمة لي، لكني لا أنسخ رسوم الأطفال مع ما تجلبه من ادهاش، فهي تسهل جريان التحديث في وجهة الخطاب وتهبه نسغاً أكثر طراوة وجمالاً وعذرية، فالطفل برأيي رسام كبير، لا يقم وزن لمشكلات السطح التصويري العويصة التي يعاني منها الرسامون الكبار، ومنها جمال التراكيب، وسيولة الاحاسيس، وأنماط الأداء الحر، وهتك لزوميات الأسلوب، وتوليد الصّور، وتخطي لحظة مواجهة البياض والشجاعة في فض مجاهيله.

أمدتني رسوم الأطفال تجربة لا حدود لها في مناورة على جغرافيا السطح التصويري، وتوليد الحلول اللازمة لكل مشهد مرسوم، والهيئة البصرية التي يراد لها أن تكون. كما أنها تهب الفنان بالحيوية الممكنة لتجديد وجهة الخطاب، هذه المساحة من المناورة تسهل على الفنان احداث إزاحات متلاحقة في الأسلوب ما تجعله يساير تطلعات الفنان ويجري مجرى خيالاته المتجددة وليس العكس، شخصياً لا أحبذ الرسام الذي يقع أسير مخرجات التجربة غير قابلة على تجديد نفسها، فالممارسة المستمرة، مع غزارة الانتاج كفيلتان بإزاحة كل العوائق التي تفرض تدفق الأشكال التي تتحول إلى أنساق تحدد هوية الخطاب وثراء المنجز الابداعي.

كثر من الفنانين الكبار عادوا أدراجهم إلى الطفولة حين تعذر عليهم توسيع أفق الخيال والتلقي معاً، ماتيس، وبول كليه، وبيكاسو، وجواد سليم، وميرو...الخ، فعلوا ذلك وكان أن انعكس بالقوة الممكنة على طلاقة التعبير، ومسار التجارب الخلاقة.

كان بيكاسو يرى من رسوم الأطفال مصدر غواية وهو القائل: حين كنت طفلاً كنت ارسم مثل روفائيل، وحين أخذ بي السن عرفت كيف أرسم مثل الأطفال..

كنت في فترة الثمانينات ارسم تحت ضغط الذهن ولا اترك مساحة كافية للأشكال لأن تمارس طلاقتها الممكنة على السطح التصويري، شيء من هذا أصبح من الماضي، رسومي بعد ذلك تحولت كثيراً رغم وجود محور رئيس تطوف عليه التجربة، فأعمالي تجدد نفسها على الدوام كلها جد جديد، لاسيما وأن ممارسة الرسم أصبحت مع السنوات بمثابة طقس شخصي يصعب الاقلاع عنه.

تواصلي اليومي مع اللوحة، أكسب أعمالي مسحة عاطفية، وغنائية، مع احداث تنويعات أدائية في الانشاءات التي تعتمد عفوية العلاقات والارتجال اللحظي المحمول على خبرات متراكمة، والصور الذهنية وتداعياتها، هذه السبيكة من عوامل الحث تسهم في منح اللوحة صدق الأحاسيس، وتنوع الأشكال ومصادرها بالشكل الذي يجعل من اللوحة فضاء جمالي يمتص ويبث المشاعر في ارساليات بصرية بلا حذلقة، أو استعراضات أدائية تضعف حيوية لحظة الرسم.

يتملكني إحساس أصيل أن ثمة طفل في داخلي هو الذي يقودني لأقول شيئاً ما على السطح الأبيض، وفي العادة، لا أخطط لأعمالي، فالمساحات اللونية، والخطوط تقود نفسها بنفسها خالقة بيئتها الخاصة، وهناك يأخذ الحدس حضوره الفعال في إدارة شؤون السطح التصويري، حتى وصول العمل ذروته، حيث كل عنصر ووسيلة ربط تسير على هواها في مسرح اللوحة، مشكلة في النهاية مشهداً يصعب تكراره، يهمني اقتراح مداخل بصرية لكل لوحة، وهي تتكفل برسم الأهداف شكلاً ومضموناً سواء كانت الغلبة للتعبير، أو الرمز، أو المتخيلات التي تديم الاحساس بروح الرسم وجوهره.

بيئة الطفولة تمثل لي مسوغاً للاستمرار في تصريف مشاعري والتحكم في رسم ملامح التجربة التي تزداد ثراءً مع كل لحظة تعرض إغواءاتها كي أواجه اللوحة وعالمها السري بحلول بنائية ومفاهيمية تسمح للتجربة في المضي قدماً.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ليفربول يخسر وديا أمام بريستون

مجلس الخدمة ينشر توزيع حملة الشهادات والاوائل المعينين حديثا

البرلمان يشكل لجنة إثر التجاوزات على اقتصاد العراق وأراضيه

بايدن يرفض دعوات الانسحاب من الانتخابات الامريكية : انتظروني الأسبوع المقبل

وفاة محافظ نينوى الأسبق دريد كشمولة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram