اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > نص: الباب حد الوصول وشفرة النجاة

نص: الباب حد الوصول وشفرة النجاة

نشر في: 4 إبريل, 2023: 10:05 م

لطفية الدليمي

الأماكن الموصدة تستولد هيئات الرهبة وأشكالاً من الرعب، وتتقوّس داخلها الفراغات، يتقوّس أيضاً نبر الصوت، و يذوي الحبّ المغيّب.

وتتخذ الأوقات أشكالاً أقرب إلى الأورام المستديرة وتتخذ الذاكرة حجما مبالغا فيه من أثر خواء الحاضر وانعدام رؤية الآتي، تعتاش على الماضي الذي أضحى حزمة رموز وألغاما من التشهيات وفخاخ الندم.

ينضج الصمت في الاماكن المغلقة مجرات من الافكار المتلاطمة، تتصادم وتتوتر ثم تعلو قوس الهدوء لتنفجر بكلّ مادتها من الصور والكلمات والرموز والمعاني في صحراء الفراغ. وعندما تتفجر الأفكار تحدث انزياحا في المعاني، ويغدو السكون شائكا وغريبا، وينكسر داخل المغلقات خط الافتتان بكلّ جميل - ويتزلزل الشعور بالزمن فلا مسافة بين البدء والمنتهى، وتتشوّش جغرافيا الأمكنة داخل المغلقات فيتقوس المستقيم، يستقيم القوس، يتسطح المرأى على السفح والمنحدر ويميل المرتفع وتتشابك الجهات وتنتحر البوصلة..

في المغلق توجه سلطة الرقابة استيهامات الكائن نحو العيش في تجريدات لاشكل لها، سواء في الذاكرة أو المخيلة، إذ تنجدل الذاكرة والمخيلة في ضفيرة حلمية من رموز وصور تنظم الوهم: ويعوم الكائن المحتجز في بركة من مفردات الماضي والمستقبل: (.. كان، حدث، صار، مرّ، ثم سوف وعسى، لو، ليت..) يلغى الحاضر في غمامة الاستذكار والتخيلات الخادعة، وتؤجل مفردات الحياة، لا شيء يحدث، الحدوث الوحيد هو فعل الاستيهام- والفعل الحيوي داخل الجسد- لكن الجسد القابع في المكان الموصد يظل معزولاً عن الفعل التواصلي في الزمن والامكنة.

وتفرض سلطة الإيصاد على الكائن وضعاً خارجياً هو الحجز ووضعاً داخلياً هو التحلل في الركود، وتستولي المخاوف على حدود الجسد، وتنبت للخوف أفواه ماصّة كتلك التي لأخطبوط الأعماق.

ما الذي يؤول إليه الكائن المعرض للامتصاص والتحلل والذي لا ينجز لوجوده سوى استيهامات وتذكرات؟ يتحول إلى مخلوق (رخويّ) عائم في سائل لزج من خليط الخوف والرهبة والقنوط.

..................

الفلسفة الهندية قالت: (ذلك الذي يفهم لديه أجنحة) إذن الكائن المحصور المحجور في المغلق- بما أنه لا يحلق لانعدام الأجنحة فهو محروم من الفهم، ومحجوب عن الرؤيا وهو يكابد في معزله موتاً خاصاً لتوقف عملية الامتداد في المكان والزمان، رغم أنه يتوهم وجود قناع وقاية يحميه من التسمم بالموت الخارجي المجاني وراء أسوار المغلق. (الاعتقال إنقاذ- ذلك معروف منذ الفيلسوف بليز باسكال الذي قال أيضا معظم بؤس البشرية ينبع من عدم قدرة الإنسان على الجلوس في غرفة هادئة لوحده) يمكن حسب طروحات باسكال أن يلوذ المرء بالترفيه، لكن الترفيه يسلبه قوة الفكر.

(المغلق) إذن ملاذ، المغلق محمية تحول دون أن يقع المرء في خطأ استراتيجي يفقده حياته.

لا تستبقي التحولات داخل المغلق أية صيغة مفتوحة سوى صيغة الحلم والذاكرة، فهي تغلق الكلمات والمقاطع والعبارات بمزدوجات وأقواس وعلامات، وتبتكر للمنافذ المادية وسائل الإيصاد، مزاليج، أقفالا، سلاسل أمانٍ منزلقة سقاطات ومحاور دوارة، عتبات مسننة، إغلاقا إلكترونيا تلقائيا وسائل تنجز استسلام الكائن لاشتراطات الإيصاد والقنوط.

تتضامن في المغلق سلطة الحجارة والأسمنت والمعادن مع سلطة الرعب والحذر والاستسلام لتعزز وطأة الحجْر والغلق.

وفي المغلقات تتقاطع توهّجات الوعي مع الرعب فتتوالد أسراب من الكلمات في رأس الكائن. يتحول العالم الداخلي إلى صور ورموز، بعضها من خزين الذاكرة وأقلها من نتاج الحلم، بينما يمضي العالم الخارجي بسرعة ضوئية نحو (المستقبل) نحو الزمان والمكان الآخر. وغالبا مايحصل في بلاد المغلقات المتسلسلة ان يستسلم البعض من لفكرة القبول بالاحتجاز باعتباره قدرهم ويمجدون اذعانهم بأنه فضيلة التحمل والتضحية من اجل وهم من الاوهام، وغالبا ما يعلنون الرضا بأقدارهم، وتترسخ في نفوسهم الاستكانة والقنوط.

.....

لدرء مخاطر الركود المحتملة تضاف لبعض الغرف المغلقة زوائد مكانية- تبرز في الفراغ الخارجي لتشكل (شرفات- إطلالات- مراصد) تحجبها مشبكات أو مظلات أو مشربيات أو شناشيل- لها نسق زينة وزخارف تحجب وتحجز بينما هي تطل وتشرف، تتيح للهواء والكلمات والروائح تسللاً وعبوراً وانتشاراً، أما الجسد فيبقى رهن مغلقه.

غرف أخرى من طراز المغلقات تتكور وتستدير وتستحيل كواكب عزلة، تنمو في داخلها مبالغات عن قيمة التفاني والتضحية.السجين السياسي يؤمن بالتضحية وتتضخم لديه أوهامه عن أهمية دوره في احداث التغيير المرتجى.

تقترح بعض المغلقات للكائن عزلة متشددة و تطرفاً في- المنع- فلا تعود عندها تمثل حصناً دفاعياً بل زمن يباب و غروب وتحريما للتماسّ وإلغاءً لرعشة الجسد، وتأجيلا للمواصلة، وتمتصّ المغلقات الاصوات وتكبح تدفق الصبوات؛ فيتكثف كل شيء في أعماق الكائن المحجوز، ولا تنبثق من الحركة الحيوية المحدودة في الحيز الموصد سوى حالة الغضب الاعمى التي ما ان تهدأ حتى تفضي الى الاستسلام. تكرس المغلقات فراغاتها الشحيحة لتكون مضاداً للبوح والتلقي وتبادل الأفكار والخبرات.

المغلقات ليست حصوناً مشيدة لأغراض الاحتماء، فهي أشبه بصحارى صغيرة تعجز عن استيلاد وهم السراب، كل شيء فيها يفضي إلى جدار، البحث يحبط، والصوت يرتد و الرغبة تذوي.

يدعي البعض أن المغلقات توفر في جغرافيتها نوعاً من أمان لشاغليها، لكنه أمان تفلاضه سلطة متجبرة وتحكمه سلطة الإيصاد، يسوغ هذا البعض سلطة المغلق بكونه يحمى الافراد من الهجمات الخارجية واختراقات (العدو)، وهكذا حجر الطغاة - طوال العصورعلى مواطنيهم - بإدعاء حمايتهم من أعداء يحتمل هجومهم بين آونة وأخرى.

تتدبر المغلقات أمر الكائن بأسلوب رواقيّ، فلا يعود مباليا، بما هو فيه، إذ يتقبّل قدره ويرضى بسلطة تدير حياته الوجهة التي تشاء، وليس له أن يجزع فالسعادة لا تنتجها المتع وإنما تأتي من قبوله بالقدر!!

وعندئذ يمضي المرء إلى ملاذ منسوج من الأحلام يستوفي فيه مسراته ويبتكر عبره أبوابا مجازية ونوافذ وشرفات في نزهة حلمية مراوغة كما يدعوها (كارل يونغ) فيصنع أقفالا مطواعة ومفاتيح ويطفو في ممرّات ومتاهات ويرى مشاهد متطرفة، تشير إلى غلوّ في الرغبة وغلوّ في الحركة:

(يرى أجسادا محط رغبة مستثارة، يرى سلال ثمار تقترح رفاهاً شهيا، وثياب حرير وموسلين تقترح ترفاً محرّماً، ويشمّ عطور مسك وراتنج صنوبريات تقترح انجذاباً وغواية) وفي الحلم تؤجل النهايات، ويكتفي الكائن بالزمن السائل بديلا للحاضر المسجون، يؤجّل حكم العزلة والحجْر، وبالتالي يرجئ فعل الفناء مقابل غياب الباب والمعبر إلى الخارج- نحو الآخر- إلى المرآة التي يرى فيها الكائن نفسه منعكساً في (البرزخ) ما بين الجسد والصورة (حسب وصف محيي الدين بن عربي)

جغرافيا الأمكنة المفتوحة.

الوقت يزاول مهنة اصطيادنا، اتساع الغابة ليس هو المبتغى في الرحلة البشرية، ولا هو علامة الأمل، إنما المنشود في النهاية هو الملاذ- الكوخ- المأوى- دفئه ومحدوديته، هذا الذي سنعثر عليه بعد التجوال في مجاهل الظلمات الغابيّة وطرقها المضاءة وآيات جمالها وشجرها الألفي، ومخاطرها المباغتة.

الجدران في الملاذ لن تكون مطلبنا لبلوغ الأمان، إنّ ما ننشده حقاً هو (الباب) الذي يحدّد لنا معنى الفعل والحركة في الاتجاه المتعارض: الخروج والدخول، ويمنحنا أهمية أن نكون "مع" أو "في" أو "وراء" أو "أمام" "داخل" أو "خارج" فالباب غاية تفضي إلى معالجة سلطة الايصاد والتعامل مع المغلق والمفتوح، ففي الاتساع المفزع للمساحات الفراغية تصبح المسميات: الوراء والأمام والشمال والجنوب لغة بلاغة منسية لجهات ملتبسة.

لاشيء يحدث في الفراغ ولا يقاس شيء، لن يكون حاضراً سوى الكائن المستوحد- الذي سيحلم بباب يدخل ويخرج منه إلى حاضر أو آت إلى أمام أو وراء.. يصبح الباب رؤيا الكائن وحلمه كل لحظة وبقدر ما ينعشه امتداد الفراغ بقدر ما يضلله العماء الكبير فيه والتشوش المتحقق من انعدام الحدّ والخطّ والفاصل. ففي المغلق والمفتوح يكابد الكائن معضلات متشابهة فالباب يصبح ضرورة في الفراغ كما هو في المغلق لكي يتخذ الكائن والمكان حجماً ولكي يسبغ اجتيازه على الحركة اتجاهاً ومعنى وهدفاً. الباب هو حدّ الوصول والاتصال، وبدء الخطوة إلى الخارج ومثيلتها إلى الداخل. وهو مضادّ المغلقات ونقيض الفراغ اللانهائي، وانعدامه بداية (رعب) في المكان المغلق المسوّر وعلامة ضياع في الفراغ المفتوح على اللانهائيّ.

الباب نقيض العزلة، الباب يدحض الرعب في المغلق ويمنع التيه في المفتوح وهو الذي يأخذ الكائن إلى الـ (هنا) والـ(هناك) الغامضة يأخذه ليعرف ويكتشف ويتعرض للعاصفة والجمر والثلج ويدرك كيف يكون التضاد والتعارض والتقابل فيميز صوت الآخر وحجمه ورائحته. فبدون ذلك (الآخر) وراء الباب أو أمامه لا يعرف الكائن ما يتعذّر قياسه في المغلق.

. عندما يرغم الكائن على عزلة المغلق – في سجن أو بلد ذي سلطة قامعة دينية كانت أو سياسية - ويخرج منها إلى ما يشبه المتاهة، تفاجئه مقاييس تعلن درجات الزلزلة ومديات البعد، وحجم الضجيج، ومعدل السرعة، يجد نفسه غريباً عن سياقات التسارع والمتغيرات، لكنه يدرك أنّ المتاهة ليست وسيلته إلى المستقبل، والكلمات المتاحة لا تملك مفاتيح لأسرار الكون، إنما الكلمات التي تأخذ حيرة الكائن إلى المعرفة وتملأ فراغ العدم بالمعاني.

الباب مغلقاً أو مفتوحاً ضرورة، فوراء الباب تكمن مفاجآت، كشوفات وربما كنز، ويتخذ الباب رهافة الحدّ القاطع الذي يفصل بين الانطفاء في المغلق والتوهج خارجه، بين الرماد والجمر ويحدث هذا في المغلق والمفتوح بالطريقة ذاتها.

الباب موصداً يحقن الخيال الحلمي بمحفزات، الباب مفتوحاً يمنح جسد الكائن حيزاً جديداً في الفراغ- امتلاك مكان وزمان آخرين، ومن دون الباب يتساوى الفراغ ونقيضه.

إذن نفي القاعدة هو الكشف عن تناقض أهدافنا فنحن نبحث في الاتساع اللا نهائي عن باب وفي الغابة وغموضها عن مأوى..

المغلق والمفتوح ينهضان فينا، ومن داخلنا، ونحن ننحت أطر الأبواب والنوافذ لنطلق رؤانا ونحلم ونوجد في حقول الدهشة والغرابة- وبعدها نكتب أو نرسم أو نغنّي، أو نخوض تجربة الإبداع التأمّليّ.

إنّ ابتكار باب مغلق أو مفتوح في جدران أربعة أو سور دائري، في فراغ أو غابة أو كلام ينجز ترسيم الحدود بين آليات الحجر والتيه، والباب هنا يُشخّصُ باعتباره شفرة سحرية تمتد بين (ذاكرة مهيجة) في محدودية المغلق وأسواره، وبين مخيلة جامحة في الفراغ الحرّ المفتوح، نحن نبحث عن الباب في السور والباب في الفراغ والباب في النصّ حيث نعثر عليه من خلال التأويل، نغلق ونفتح في اجتيازنا الأبواب إلى جهات جديدة ومن مناطق موصدة نبتدعها ويبتدعها لنا الآخر،ويبقى الباب سرّنا، وشفرتنا، وهدفنا- لتحقيق الرؤى والوصول، أو الدخول في مغلقات جديدة تطبق علينا أبوابها وتحجزنا لكي تدفعنا إلى ابتكار أبواب جديدة حتى تصبح غاياتنا: أبواباً وثغرات في كل سور وفي كل مغلق أو فراغ مفتوح.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ليفربول يخسر وديا أمام بريستون

مجلس الخدمة ينشر توزيع حملة الشهادات والاوائل المعينين حديثا

البرلمان يشكل لجنة إثر التجاوزات على اقتصاد العراق وأراضيه

بايدن يرفض دعوات الانسحاب من الانتخابات الامريكية : انتظروني الأسبوع المقبل

وفاة محافظ نينوى الأسبق دريد كشمولة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram