اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > سينما > بغداد تثور... متانة السرد البصري وبراعة النهاية التنويرية

بغداد تثور... متانة السرد البصري وبراعة النهاية التنويرية

نشر في: 5 إبريل, 2023: 08:24 م

عدنان حسين أحمد

على الرغم من أنّ "بغداد تثور" هو الفيلم الوثائقي القصير الأول للمخرج العراقي كرّار العزّاوي المُقيم في أوسلو حاليًا إلاّ أنه واحد من الأفلام الرصينة المحبوكة

التي تُشعرك بأنّ وراءها كاتب سيناريو محترف يراهن على تقنية "السهل الممتنع" العصيّة على التقليد أو الاستنساخ رغم أنّ الشخصيات الثلاث الرئيسة أو غيرها من الشخصيات الثانوية كانت تتحدث باللهجة الدارجة أو المَحكية العراقية التي لا يصعب فهمها في الوقت الراهن من قِبل المُشاهدين العرب، وإذا تعثّر الفهم قليلاً فالترجمة الإنكليزية كفيلة بحلّ هذا الإشكال. ومَن يتابع هذا الفيلم ببعض التأني فسيجد فيه بناءً دراميًا محسوبًا بدقة عالية يبدأ بالاستهلال، وتصاعد الحدث وتوتّره حتى بلوغ الذُروة ثم الوصول إلى حلّ العُقدة والنهاية المدروسة بعناية فائقة. ولو تمعّنا في النهاية فقط وتركنا الفيلم كله جانبًا لوجدناها "ضربة معلّم محترف" يكتب قصصًا قصيرة جدًا ويبرع في رسم نهايتها التنويرية التي تظل وامضة في ذهن المتلقي لزمن طويل لأنها تمثّل أحلام العراقيين الشرفاء الذين يحبّون وطنهم، ويُخلصون إلى قيمهم ومبادئهم النبيلة التي جٌبلوا عليها على مرّ العصور.

تتمحور ثيمة الفيلم الأساسية على المظاهرات الشعبية التي انطلقت في العراق في الأول من أكتوبر سنة 2019م احتجاجًا على تردّي الأوضاع الاقتصادية للبلد، وتفشي البطالة، وانتشار الفساد الإداري والمالي في دوائر الدولة وأروقة الطبقة السياسية التي تدين بولائها للخارج وتتحامل على أبناء جلدتها في الداخل. تتكئ قصة الفيلم على ثلاث شخصيات رئيسية وهي المتظاهرة والمُسعِفة طيبة فاضل، والمصوّر يوسف ستار، والمتظاهر خضر الياس طه إضافة إلى آخرين يؤثثون المتن الحكائي للقصة السينمائية التي توثّق لاحتجاجات تشرين الخالدة.

نجح المُخرج وكاتب السيناريو كرّار العزاوي في أن ينطلق بقصته من الفضاء الذاتي إلى الموضوعي حينما دفع طيبة لأن تتحدث عن تجربتها الشخصية وتبوح بها أمام الكاميرا، وتقدّمها للناس من دون رتوش. تتضمّن غالبية الأفلام الوثائقية المهمة توطئة بصرية توجز المتلقّي بخلاصة الثيمة وبعض تشظياتها الرئيسية التي تجمع بين الزمان والمكان والحدث الذي سنعرف أنه الأول من أكتوبر سنة 2019م، والمكان هو ساحة التحرير في بغداد، وأنّ المتظاهرين قد ملّوا من الفساد، والتدخل الأجنبي، ولا يجدون حرجًا في القول بأنهم يريدون إسقاط الطبقة السياسية التي وصلت إلى سدة الحكم بعد 2003م. أما عن الشخصية الرئيسة فنعرف أنها طيبة وهي من مواليد بغداد سنة 2000م. وقد أمضت حتى الآن 55 يومًا في ساحة التحرير كمتظاهرة وثائرة ومُسعِفة تعالج الشباب الذين يتعرضون للقنابل الدخانية المسيّلة للدموع أو لشظاياها المعدنية التي تسبّب جروحًا بالغة تفضي إلى الوفاة في بعض الأحيان.

يستعين المخرج بتقنية "الفويس أوفر" ليقدّم لنا هذه الشخصيات فنعرف أنّ طيبة كان عمرها ثلاث سنوات حينما غزا الجيش الأمريكي العراق عام 2003م. فهي ابنة الحرب، والصراعات الطائفية الدامية التي حوّلت حياة العراقيين إلى جحيم لا يُطاق. وفاقم ذلك ظهور "القاعدة" و "داعش" و "الفصائل المسلّحة" التي أرعبت المواطنين بالعبوات، والسيارات المفخخة، والأحزمة الناسفة فلاغرابة أن تصبح مآتم العراقيين أكثر من أفراحهم، ويزداد عدد الأرامل والأيتام والمهجّرين إلى درجة كبيرة لا يمكن إخفاءها أو التستّر عليها. يتمثّل الجانب الشخصي في طيبة أنها تزوجت وهي في سن الرابعة عشرة في وقت لم يُفعّل فيه قانون العنف الأُسري. وقد وصفت الرجل الذي تزوجتهُ بـ "الهمجي والحقير" وقررت أن تنفصل عنه قبل أن تنجب منه طفلاً ولكنه كان رافضًا لفكرة الطلاق. ولعل هذا المخاض العسير الذي عاشته هو الذي صنع شخصيتها الجديدة الثائرة التي تتطلع من خلالها لأنه تكون حُرّة ومُستقلة ومكافِحة تقاوم الظلم على الصعيدين الشخصي والعام. ولعلها رجّحت العام على الخاص فقررت استعادة وطنها قبل أن تسعيد حياتها الشخصية التي نهضت من تحت الركام مثل طائر العنقاء تمامًا.

لم يقع الفيلم ضحية للإسهاب أو الترهل فمن خلال "جدار الأمنيات" كان المحتجون يدوّنون أمنياتهم فكتبت طيبة:"يومًا ما سيكون هناك عراق بحق". ورغم أنّ الحرية هي مَطلب الجميع تقريبًا إلاّ أنّ أمنية زميلها المُسعف والمصوّر يوسف ستار هي أن "يرجع العراق أفضل من السابق بعيدًا عن الطائفية والتمزق الاجتماعي". ولعل الآصرة القوية التي تربطها بيوسف هي التي جعلتها تقول باطمئنان كبير "بأننا صار لنا أكثر من 100 يوم نأكل ونشرب وننام معًا في خيمة واحدة". إنّ الذي جمع طيبة بيوسف وخضر الياس وغيرهما هو الوطن فلاغرابة أن يتسيّد شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" بعد أن يئسوا من دعوات الإصلاح الكاذبة. كانت طيبة تضع الموت نُصب عينيها حينما تخرج كل يوم إلى المظاهرات وتخبر والدتها بأنّ أحتمال رجوعها إلى البيت لا يتجاوز الـ 10‌% ورغم أنّ والدتها كانت تطلب منها أن تترك موضوع المظاهرات وتسافر بحجة أنّ هناك منْ يُكمل مسيرتها لكنها كانت ترفض هذه الفكرة جملة وتفصيلا فهي مثل بقية الشباب الثائرين الذين لا يخافون الموت ويواجهون القنابل الصوتية والرصاص الحيّ بصدور عارية.

يصرّح أحد المتظاهرين "بأنّ الثورة عراقية، والدعم عراقي، والمتظاهرين عراقيون" في إشارة إلى إتهامات الأتباع والذيول الذي يحاولون تشويه سمعة الثورة والطعن بوطنيتها. يحظى يوسف ستار باهتمام المخرج فيضعه بين آونة وأخرى أمام العدسة ليقول بأنه يذهب إلى البيت منذ انطلاق المظاهرات وحتى الآن لكي يستحم فقط ويعود إلى خط المواجهة الذي تكثر فيه الإصابات وقد تعرّض هو نفسه إلى إصابة بليغة في ساقه ولكنه تماثل للشفاء.

تختلف أهداف الثورة من متظاهر لآخر فبعضهم يريد القضاء على الأحزاب التي نهبت ثروات البلاد والعباد، وطيبة تريد وطنًا تعيش فيه بكرامة، وثالث يريد إسقاط النظام برمته، ورابعة تريد عراقًا حرًا مستقلاً يحكم نفسه بنفسه. يصل الفيلم إلى ذروته بمقتل يوسف الذي تضاربت أنباء موته فمنهم من يقول أنه مصاب، ومنهم من يقول إنه جمع مخه المتناثر بيديه لكن يتيقن الجميع بعد مدة قصيرة بأنه قد استشهد وترك ورائه الكثير من صور الأصدقاء الثائرين فيشيّعه الثوار إلى مثواه الأخير.

تتوقف المظاهرة الاحتجاجية بعد 180 يومًا بسبب جائحة كوفيد العالمية، وقد قدّم المحتجون قرابة 600 شهيد في ذروة يفاعتهم وشبابهم. خلاصة ما تريد أن تقوله طيبة وتُوصله للناس بأنهم ضحوا كثيرًا وقدموا المئات من الشهداء وآلاف الجرحى في الذود عن حياض الوطن لكن الثورة لم تنتهِ بعد ولن تموت أبدًا لأنّ الأجيال القادمة سوف تكمل هذه المسيرة، ولن يبقى في نهاية المطاف سوى الوطن. أشرنا سلفًا إلى براعة الخاتمة التي رسمها مخرج الفيلم حينما أسند إلى أحد الثائرين خمس أسئلة يرددها لثلاث مرات وهي على التوالي: أنتَ إيراني؟ فيأتي الجواب الجماعي: لا. أنتَ أمريكي؟ لا. أنت سني؟ لا. أنت شيعي؟ لا. أما الخاتمة التنويرية فتتثمل بالسؤال الخامس والأخير: أنتَ عراقي؟ فيأتي الجواب الجامع المانع الذي لا ريب فيه: إي التي تعني "نعم" عراقية كبيرة لا يختلف عليها اثنان ولا يتناطح عليها كبشان. لتنطوي صفحة هذا الفيلم المؤثر الذي لا يغادر أذهان مُشاهديه بسهولة.

بقي أن نقول بأنّ كرّار العزاوي هو مخرج عراقي يعيش في العاصمة النرويجية أوسلو. يدرس الإخراج السينمائي في جامعة النرويج الداخلية للعلوم التطبيقية. "يغداد تثور" هو فيلمه الوثائقي الأول. وقد سبق أن أنجز فيلمًا وثائقيًا قصيرًا آخر بعنوان "مُجرّد بقايا" رصد فيه أوضاع اللاجئين في اليونان لكنه لا يريد أن يعتبره الفيلم الاحترافي الأول. وينهمك حاليًا بفيلم وثائقي جديد يحمل عنوان "أرواح حالمة" يروي فيه قصة فتاتين مُصابتين بمتلازمة داون، إحداهما من العراق والأخرى من النرويج.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

واشنطن تحذر بغداد من التحول الى "ممر" بين ايران ولبنان

تقرير أمريكي: داعش ما زال موجوداً لكنه ضعيف

انتخابات برلمان الاقليم..حل للازمات ام فصل جديد من فصولها؟

صورة اليوم

المباشرة بتطبيق الزيادة في رواتب العمال المتقاعدين

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

أفضل عشرة أفلام هروب من السجن

النجم غالب جواد لـ (المدى) : الست وهيبة جعلتني حذراً باختياراتي

أفضل عشرة أفلام هروب من السجن

معاهد متخصصة فـي بغداد تستقبل عشرات الطامحين لتعلم اللغة

متى تخاف المرأة من الرجل؟

مقالات ذات صلة

حين تتستر الإيدلوجيا الثورية بقبعة راعي البقر!
سينما

حين تتستر الإيدلوجيا الثورية بقبعة راعي البقر!

يوسف أبو الفوزصدر للكاتب الروائي السوري، المبدع حنا مينا (1924- 2018)، الذي يعتبر كاتب الكفاح والتفاؤل الانسانيين، في بيروت، عن دار الآداب للنشر والتوزيع، عام 1978، كتاب بعنوان (ناظم حكمت: السجن… المرأة.. الحياة)، يورد...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram