د. قاسم حسين صالح
(الحلقة الأولى)
توطئة
بوصفي شاهد عيان، فأن مؤسسات الدولة تعرضت للنهب في 8/ نيسان / 2003 وليس التاسع منه.
ففي صباح ذلك اليوم كنت أرى، من شباك شقتي المقابلة لوزارة العدل بشارع حيفا، أربع دبابات أمريكية تربض في الصالحية بجوار تمثال الملك فيصل الأول، وجرى نهب ممتلكات وزارة العدل التي لا يفصلها عن هذه الدبابات سوى رصيف الشارع.. على مرأى و " تشجيع " من الجنود الأمريكان. فيما بدأت الحرائق في بغداد في 12 نيسان 2003، إذ شهدت اشتعال النار في الطابق العلوي من بناية البنك المركزي العراقي، وفي الركن الأيسر الأرضي من مبنى وزارة العدل، وفي مبنى الإذاعة والتلفزيون ومبنى وزارة الإعلام. وكنت أرى من على سطح العمارة التي اسكنها بشارع حيفا، الحرائق حيثما أدرت وجهي في سماء بغداد.
كان فرح العراقيين معجونا بدهشة انهم تخلصوا من كابوس رهيب جثم على صدورهم ربع قرن. ما كانوا يصدقون انه تمت الأطاحة بطاغية دمّر وطنهم وأذلّهم وقتل أبناءهم في حروب حمقاء وزجهم في سجون مظلمة،وشرّدهم بين من احتمى بالجبال والأهوار ومن غادرالوطن.
فلقد كان شيئا أشبه بالخيال ان يستيقظ العراقيون صباح ذاك التاسع من نيسان وقد وجدوا انفسهم قد تخلصوا من الحاكم الوحيد في تاريخ العراق الذي سجل أعلى الأرقام في ترمّيل النساء وتيتيم ألأطفال، وفي جعل المهندسين خريجي الجامعات يبيعون (اللبلبي)في الشتاء و(الموطه) في الصيف في صنعاء وعمان وهم أبناء أغنى بلد في العالم!. ومن شهد ذاك اليوم يتذكر ذلك الرجل الذي مسك صورة صدام وهو يضربها (بنعاله) ويخاطب العالم بانفعال عبر فضائية الجزيرة:(ياناس ياعالم هذا مجرم دمّر العراق وقتل العراقيين).
كانت حقيقة الخلاص من طاغية مرعب، اشاع في نفوس العراقيين بشرى ان (9 نيسان /ابريل 2003) سيحقق لهم حلم العيش في نظام ديمقراطي والاستمتاع بالحياة كباقي الشعوب. ما كانوا يتصورون بالمطلق ان ذاك التاسع من نيسان سيكون بوابة الفواجع والأحزان،وما كانوا يتوقعون انهم سيقتل بعضهم بعضا ويخسرون عشرات الآلاف في سنتين(2006-2008)..وتذهب احلامهم ادراج الرياح وتتضاءل آمالهم حتى من ابسط اصلاح.
تحولات ما بعد 9 نيسان
كان اول تحول سيكولوجي-اجتماعي حصل في المجتمع العراقي بعد 9 نيسان 2003، نصوغه بما يشبه النظرية:
" اذا انهارت الدولة وتعطّل القانون وصارت الحياة فوضى.. شاع الخوف
بين الناس وتفرقوا الى مجاميع أو أفراد تتحكم في سلوكهم الحاجة الى
البقاء..فيلجئون الى مصدر قوة أو جماعة تحميهم، ويحصل بينهما ما يشبه العقد، يقوم على مبدأ الحماية المتبادلة ".
وبحتمية سيكولوجية،فان حاجة العراقيين الى (البقاء) دفعتهم الى حاجتهم الى (الأحتماء)، لأن خيمة الدولة اذا سقطت ولا توجد خيمة اخرى تجمع أهل الوطن فان الناس يصابون بالذعر فيتفرّقون بين من يلجأ الى عشيرة أو مرجعية دينية، أو تجمع مديني أو سكني، أو تشكيلات سياسية أو كتل بأية صفة كانت.
وما زاد من مشاعر الخوف بين الناس، وتوزعهم على تلك المرجعيات، تعرض بغداد الى النهب والسلب وحرق مؤسسات الدولة بشكل لم تشهد له مثيلا في أحداث تاريخ نهبها التي زادت عن العشرين. وكان أن اتسعت الكارثة بشكل جنوني لدرجة أن الوطن كلّه صار ينهب من قبل أهله.
التحولات الاجتماعية..تحكمها قوانين
لا تحدث الظاهرة الأجتماعية (السيئة) بشكل عفوي،ولا تتطور بشكل عفوي. فان لم تصلح او تعالج في حينها فانها تخضع لقانون التطور من سيء الى أسوأ. يؤكد تنظيرنا هذا ان (الحاجة الى البقاء) تطورت الى(الحاجة الى الأحتماء).. وهذه نجم عنها تحوّل سيكولوجي خطير، هو تعطّل الشعور بالانتماء الى الوطن بتحوله الى المصدر أو القوة التي تحمي الفرد وبولاءات لا تحصى.
وتأكيدا لتنظيرنا من ان الحال السيء اذا لم يصلح في حينه تطور الى اسوأ، فأن الأسوأ تطور الى ما هو أسوأ منه بقانون اجتماعي جديد هو:
(إن الولاءات المتعددة في المجتمع الواحد،
الذي ينهار فيه انتماؤه الذي يوحّده طوعا" أو قسرا"،
تؤدي الى أن تتصارع فيما بينها على السلطة،
حين لم يعد هناك دولة أو نظام).