ثائر صالح
الجزء الثاني -
بدأ هايدن حياته العملية سنة 1750 في البحث عن مصدر دخل لإعالة نفسه. عمل بأعمال مؤقتة مختلفة مثل العزف والتدريس والقيام بخدمات متنوعة،
خاصة المرافقة الموسيقية والغنائية عند نيكولا بوربورا (1686 - 1766) ومساعدة الشاعر وكاتب الليبرتّو (نصوص الأوبرا) الإيطالي المعروف بيَترو مَتاسْتاسيو (1698 - 1782) الذي كتب نصوص الكثير من الأوبرات باللغة الإيطالية لموسيقيين معروفين مثل ليوناردو فنتشي (1690 - 1730) وأنتونيو كالدارا (1670 - 1736) ويوهان آدولف هاسه (1699 - 1783) وهو الألماني الذي بزّ الموسيقيين الطليان في الأوبرا الإيطالية. في نفس الوقت درس التأليف عند بوربورا وواصل دراساته الذاتية وانهمك في تأليف اوبرات هزلية وأعمال دينية غنائية وموسيقى الحجرة بتكليف من بعض النبلاء. بنى هايدن لنفسه سمعة بين النبلاء وحاز إعجابهم تنامت بدأبه ومثابرته، فحصل على أول وظيفة له كمدير موسيقي في بلاط الكونت مورتسين سنة 1758. وكان يقضي الشتاء في فيينا والصيف في قصر الكونت قرب بلزن في بوهيميا. ألف في هذه الفترة أولى سيمفونياته التي تألفت عموماً من ثلاث حركات، لكنه بدأ بكتابة سيمفونيات من أربع حركات مبكراً كذلك، وهو العدد الذي أصبح العدد المعتاد لحركات السيمفونية لفترات طويلة، قبل أن يبدأ الموسيقيون بالتحرر من هذا التقييد في الفترة الرومانتيكية.
لم يستمر عمله طويلاً عند الكونت الذي اضطر لتقليص نفقاته بسبب أزمة مالية فحل الفرقة الموسيقية، لكنه أوصى الأمير المجري أنتل (آنتون) أسترهازي بهايدن. حصل هايدن على عمل في أوركسترا الأمير في نيسان 1761 مساعداً لقائد الفرقة غريغور يوزف فرنر (1693 - 1766) بأجر مضاعف عن أجره السابق عند الكونت. لكن الأمير آنتون توفي في العام التالي ليخلفه أخوه ميكلوش الأول (نيكولاوس) الذي عُرف بحبه للموسيقى والفنون، وقد أصبح هايدن قائداً للفرقة بعد وفاة فرنر.
تُعد عائلة أسترهازي المجرية من أثرى العوائل في الامبراطورية النمساوية. يقع مقر الأمير ميكلوش الأول في قصر فخم في آيزنشتات (بورغنلاند النمساوية)، لكنه بدأ بين 1762 - 1766 بتوسيع قصر آخر للعائلة في أسترهازا (في الريف المجري) وجعله مشابهاً لقصر فرساي، وألحق به في 1775 دار أوبرا صغيرة قدمت فيها أوبرات ومسرحيات، منها أعمال هايدن. وقد اعتاد الأمير قضاء الصيف في هذا القصر الباذخ، فيأخذ معه حاشيته وخدمه بضمنهم الفرقة الموسيقية لكن من دون استصحاب عوائلهم. وهنا حصلت حادثة تأليف هايدن سيمفونية الوداع سنة 1772 لإيصال رسالة إلى الأمير مفادها أن إقامة أعضاء الفرقة في القصر الصيفي قد طالت، وحان وقت العودة إلى منازلهم وعوائلهم. فقد كان تعامل النبلاء مع الموسيقيين لا يختلف عن تعاملهم مع خدمهم كثيراً، وكانت المؤلفات الموسيقية التي يكتبها هايدن ملكاً لمخدومه. لكن الأمر تغير بعد تجديد عقد العمل سنة 1779، فتمكن هايدن من تلبية طلبات خارجية بالإضافة إلى مهامه الموسيقية المتعددة لدى الأمير وبلدية آيزنشتات. عندها ألف الكثير من الرباعيات الوترية والسيمفونيات، بينها السيمفونيات الباريسية (1785 - 1786).