اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > مدونة العنف في العراق للباحث أحمد حميد: أربعة عقود دموية وروايات عنها

مدونة العنف في العراق للباحث أحمد حميد: أربعة عقود دموية وروايات عنها

نشر في: 8 إبريل, 2023: 10:49 م

شاكر الانباري

لا شك بأن المجتمع العراقي مجتمع عنيف، وللأمر علاقة وثيقة بتطور العراق التاريخي منذ نشوء الدولة الحديثة عقب هزيمة الامبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى،

وتأسيس المملكة لاحقا. ولذلك العنف كثير من الأوجه والتجليات وهي تتغير على مر العقود، وتبعا لتفاعلات قيام سلطة ما، أو حراك تطوري داخلي في الواقع. ومثلما نجد تركيبات عديدة في بنية المجتمع تتفاعل، وتتصارع، وتهيمن أو تهزم في لحظة معينة، نجد أيضا تنوعا في العنف تبعا لمسيرة الواقع والسلطة والقوى الخارجية. عنف ما قبل سقوط النظام ربما يختلف شيئا ما عن العنف الذي عاشه العراقيون بعد الاحتلال الأميركي، وانبثاق نظام سياسي جديد يختلف تماما عما سبقه. والعنف في الواقع ظاهرة مفهومة ومحسوسة ومعاشة، وهذا ما ترسب في ذاكرة أجيال وأجيال، لكن تجليات ذلك العنف في روح الفرد هو ما تكشفه الفنون رمزا أو إيحاء. بينما يظهر في الرواية واضحا، يستطيع القارئ تلمسه أثناء قراءة النص. ومن يضع له خارطة محددة، ويستقرئه بعمق، هو الناقد، أو الباحث في هذا المضمار.

كتاب الباحث أحمد حميد يغامر في رصد ظاهرة العنف عبر الرواية. العنف السياسي والاجتماعي والأسري، على سبيل المثال، ظل لعقود طويلة هو السمة البارزة في الروايات المنتخبة. وهي مكتوبة منذ الستينيات وحتى عام 2003، باعتبارها سنة مفصلية على جميع الصعد. هو يستخلص، عبر تتبع ظاهرة العنف، روح الرواية المنتخبة لتأكيد مقولته أو عنوانه البحثي. يتناول إذن تجليات العنف في تلك الروايات المنتخبة أكثر مما يتناول الجوانب الفنية الجمالية، حسب منهج البنيوية التكوينية الذي برع في صياغته الفيلسوف الفرنسي "لوسيان غولدمان". إذ يركز على بنية النص أولا ثم بعد ذلك علاقة تلك البنية بالمجتمع. الروايات التي تناولت العنف السياسي والمرأة كان لها صبغة فاقعة في هذا المجال، نتيجة احتدام العنف السياسي مع السلطات المتعاقبة، وتورط الشخصيات بموقف سياسي عادة ما يكون مناوئا لتلك السلطة. تمثلات العنف السياسي برزت جلية في رواية "خمسة أصوات" لغائب طعمة فرمان، و "الثلاثية الأولى" لجمعة اللامي، و "الغلامة" لعالية ممدوح، و "مكان اسمه كميت" لنجم والي، و "ليالي الكاكا" لشاكر الأنباري. أما الروايات التي تناولت السجون، بما في ذلك فنون التعذيب، والاعترافات على الرفاق، والحياة اليومية للسجناء السياسيين، فوجدها الباحث في رواية "الوشم" لعبد الرحمن مجيد الربيعي، و "القلعة الخامسة" لفاضل العزاوي، و "حافة القيامة" لزهير الجزائري.

وفي وقت ما من تاريخ العراق القريب هيمن الصراع بين البعثيين والشيوعيين لفترة طويلة على فن الرواية، عبر لعبة العنف والعنف المضاد، وهو صراع بين فكرين وآيديولوجيتين كانتا ذريعة للقتل، وتصفية الآخر المختلف، وقد امتد الصراع منذ الحقبة الملكية حتى سقوط النظام البعثي. ولاحظه أحمد حميد في رواية "القمر والأسوار" لعبد الرحمن مجيد الربيعي، و "ذاكرة المدارات" لناصرة السعدون، وفيها العنف السياسي بحق البعثيين من قبل حكومة ثورة تموز، ولاحقا بعد انقلاب شباط ضد البعثيين. هناك أيضا رواية "الرجع البعيد" لفؤاد التكرلي، و "لو دامت الأفياء" لناصرة السعدون أيضا، وتناولت فيها انكسار التيار القومي بسبب احترابات الرفاق وعنفهم المعنوي إزاء بعضهم البعض. ومعظم تلك الروايات كتبت في ظل رقابة شديدة على الكتاب، مما دفع بالنصوص إلى احتمال الرمز والايحاء والسجال المبطن. يجيء بعض الأحيان شاعريا تهربا من مخالب الرقابة.

ومن وجوه العنف كذلك ما هو موجه ضد المرأة، أو المرأة ضد الرجل، أي أنه يشمل العنف الأسري بعامة، وارتباطه بالتقاليد المتخلفة والنظرة الذكورية للعلاقات الانسانية. "حبات النفتالين" لعالية ممدوح، "أطراس الكلام" لعبد الخالق الركابي، ثم رواية "الخراب الجميل" لأحمد خلف. العنف الأسري يضم في مفهومه قانون غسل العار، وحماية الشرف الذكوري، وقد لمس القارئ أصداءه في رواية "المستنقعات الضوئية" لإسماعيل فهد اسماعيل، و "الجسور الزجاجية" لبرهان الخطيب. كما أفرد غائب طعمة فرمان حيزا واسعا للعنف ضد المرأة واستغلالها، وقد وثقت روايته المؤسسة "النخلة والجيران" ماهية المجتمع البغدادي في حقبة العراق الملكي، واستغلال الرجل لسذاجة المرأة ووعيها الخرافي والقدري. وفي العنف الاجتماعي، والخيانة الزوجية في مجتمع محافظ مغلق، تندرج أيضا رواية "صراخ النوارس" لمهدي عيسى الصقر، ورواية بابا سارتر لعلي بدر. أما عنف المرأة تجاه الرجل فقد استخلصها الباحث عبر حوارات الشخصيات، ومواقفها، في رواية "المسرات والأوجاع" لفؤاد التكرلي. أما رواية لطفية الدليمي "خسوف برهان الكتبي" فتتناول موضوعة انهيار الطبقة الوسطى في زمن الحصار، والمواجهة الخاسرة مع الواقع القائم، وهي رؤية سوداوية لحياة برهان الكتبي توثّق فنيا البعد المأساوي لما عاشه العراق فترة الحصار، والعنف المعنوي والمادي الذي مورس عليه، سواء من السلطة، أو النظام الدولي. وكانت موضوعة العنف في الريف، والصراع بين الفلاحين والاقطاع فحضر جليا عبر رواية "ثغور الماء" لمحمد حياوي، والتقط الباحث من النص كيفية تسخير شيوخ الاقطاع في جنوب البلاد للفلاحين وعوائلهم في ظروف قاسية.

كانت الحرب تتويجا لأقصى عنف على الفرد، وهذا استنتاج شائع ومحسوس، لا في الرواية فقط، بل في قرارة الفرد العراقي الذي عاش عشرات السنين وسط حقول الموت والدمار واليأس. معلوم أن الكارثة ابتدأت عند انفجار الحرب العراقية الايرانية، وقد وجد أحمد حميد أن هناك روايات تعبوية كتبت لتمجيد الحرب، وساهمت في تزويق بؤسها، وغطّت على المقتلة الدائرة خلال ثماني سنوات. استبعد ذلك النمط كليا من بحثه. وهناك روايات كتبت بضمير متألم يقف على الضد من رؤية السلطة لتلك الحرب. والباحث تناول تلك الروايات المكتوبة بصدق عن معاناة الجنود، وثقل الحرب على الأسر العراقية، والهزيمة الروحية التي عاشها المجندون سواء في مواقع الحرب أو حين عودتهم إلى أسرهم في الاجازات. وظل تأثير تلك الحرب سنوات طويلة بعد ذلك، خاصة لدى الأسرى الذين عادوا بعد انتهاء الحرب، ولكنهم عادوا محطمين، مشتعلي الرأس بالبياض، مفككي الأرواح. وربما فاقدي جزءا من أجسادهم، كالعقل مثلا. وهنا عرض الباحث وثائقه الروائية عن الحرب فوجدها في رواية "الحافات" لمحمود جنداري، ورواية "ألواح" لشاكر الأنباري، و "الحرب في حي الطرب" لنجم والي، و "باب الخان" لهدية حسين، و "العيون السود" لميسلون هادي، و "أصغي إلى رمادي" لحميد العقابي وهي عن حال اللاجئين العراقيين في مخيمات اللجوء الايرانية، والانتحار بينهم، وأسلوب عيشهم اليومي. كذلك في رواية "من يفتح باب الطلسم" لعبد الخالق الركابي إذ نأت نحو التاريخ البعيد بعرضها لحروب الدولة العثمانية ضد العشائر المتمردة في جنوب العراق، و "الخروج من الجحيم" لناطق خلوصي، و "أروقة الذاكرة" لهيفاء زنكنة وهي عن القيادة المركزية وانتفاضتها ضد السلطة نهاية الستينيات، و "مدن فاضلة" لزهير الجزائري وكتبت عن حركة الأنصار الشيوعيين ضد السلطة في بغداد ثمانينيات القرن العشرين، و "ليل البلاد" لجنان جاسم حلواي، حيث البطل يهرب من الحرب ليلتحق بالأنصار أيضا.

ذلك هو، إجمالا، كتاب أحمد حميد عن العنف قبل 2003، وتجلياته في الرواية العراقية. ويلاحظ أن الباحث بذل جهدا استثنائيا في قراءة عشرات الروايات. وعاش مع مئات الشخصيات ليستخلص رؤيته لمقولة العنف. إضافة إلى أنه يسند تحليله، بعض الأحيان، بأفكار رديفة لنقاد، ومفكرين، تناولوا موضوعة العنف في النص الروائي عالميا وعربيا. وهو عمل ليس باليسير، إذا ما عرفنا أن الكتاب المعتمدين يقيم بعضهم خارج العراق، أو صدرت رواياتهم قبل عشرات السنين وليس من السهولة توفرها في الأسواق اليوم. وهنا ينبغي القول إن هناك روايات أخرى لكتاب عراقيين ممن كتبوا في منفاهم الطويل، لم يصلها الكاتب، وتناولت ذات الموضوعة، أي العنف، وبالذات وجه الحرب البشع. وتمتع الباحث أحمد حميد بحيادية ملموسة في انتخاب نماذجه، عدا عن عمق التحليل للنصوص، واصطياد الفكرة المؤيدة لرؤيته التي وصفها بالبنيوية التكوينية. لكن ماذا عن العنف في الروايات التي صدرت بعد عام 2003؟ بعد أن زالت الرقابة، وتنامت حركة الكتابة بصورة غير مسبوقة في العراق؟ وماذا عن نمط العنف، وتبدل أشكاله، وزوال الرقابة الحزبية والأمنية، واتجاه المثقف العراقي لكتابة الرواية؟

لا شك أن تجليات العنف في انتاج روايات ما بعد الاحتلال تبدل، جذريا من بعض جوانبه. إذ دخل هنا الصراع الطائفي، والقومي، والعشائري، وهجوم الفكر التكفيري، القاعدة وداعش والميليشيات وملحقاتها، وصراع التدين السياسي مع الفرد وميوله الشخصية، والعنف الجديد في الطقوس الدينية وضد المرأة في الشارع. ثم الخطف، والاغتيال، وحياة السجون، وعنف جنود الاحتلال، والعنف ضد البيئة. ونحن نشهد دمارها دون أي حل منظور. وماذا عن العنف في سجون النساء، وبيئة المخدرات وتجارها، وبيئة العنف ضد الأطفال؟ وأخيرا ماذا عن الروايات التي صدرت بعد 2003 وتناولت مرحلة سابقة من العنف؟ حقيقة ينبغي القول إن مواصلة الباحث أحمد حميد في استنطاق العنف في روايات ما بعد 2003 يمكن أن يشكّل إضافة كبيرة لتاريخ الرواية العراقية، ومواضيعها وهمومها، ولو أن استكمال المشروع شاق ومكلف نفسيا وروحيا على من يتصدى لهكذا مشاريع تصب في خانة الوصول إلى مجتمع متصالح مع نفسه، يدين العنف بتجلياته كافة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ليفربول يخسر وديا أمام بريستون

مجلس الخدمة ينشر توزيع حملة الشهادات والاوائل المعينين حديثا

البرلمان يشكل لجنة إثر التجاوزات على اقتصاد العراق وأراضيه

بايدن يرفض دعوات الانسحاب من الانتخابات الامريكية : انتظروني الأسبوع المقبل

وفاة محافظ نينوى الأسبق دريد كشمولة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram