TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > بين الحنين والحنان

بين الحنين والحنان

نشر في: 20 نوفمبر, 2012: 08:00 م

يقال أن النوستالجيا، أو الحنين للماضي، حالة تكبر مع تقدم العمر. وان تعددت أشكالها، فهي بالنتيجة محاولة من الذاكرة لاستعادة شطر من العمر لتلبية حاجة نفسية. كثير من علماء النفس يعتبرها جزءا من الحيل الدفاعية التي، برأيهم، ان استفحلت تتحول الى حالة مرضية تدعى "النكوص". وهي حالة تؤثر سلبا على السلوك فتجعل المعمر يعيش مراهقا وكأنه هو المقصود بكتاب "رجوع الشيخ الى صباه".

في ايام دراستنا لعلم النفس تعلمنا من فرويد أن نخضع ذواتنا للتحليل النفسي. كان هو يفعل ذلك مع نفسه دائما. وفي احدى تلك الجلسات التحليلية للذات، هاجت بخاطري ذكريات دراستي التخصصية. تنبهت الى اني لم أمارس تخصصي حتى بعد نيلي شهادة الدكتواره الا قليلا. سنوات طويلة من الدراسة والتدريب ركنتها جانبا لأعمل في ميدان الصحافة والإعلام.

اشتد الحنين فتحول الى همة للبحث عن طريقة اجدد بها معلوماتي او انشطها على الأقل. اهتديت الى طريقة ان التحق باحد الكورسات المكثفة التي توفرها الدولة البريطانية لمواطنيها مجانا. وعن طريقة مساعدة احد اساتذتي حظيت بفرصة لحضور جلسات علاجية جماعية تديرها استاذة ايرانية الاصل، جميلة حد البهاء رغم كبر سنها، وتتحدث العربية بلكنة تنعش الروح.

نساء ورجال، كلهم عرب، دفعتهم مشاكلهم النفسية للالتحاق بالحلقة الجماعية طلبا للعلاج.. وفي واحدة من تلك الجلسات دار الحديث عن الحنين وكيفية التفريق بين ما هو طبيعي منه وما هو مرضي. منحت الأستاذة المعالجة للحاضرين فرصة ان يغني كل منهم على ليلاه، او سموها بلواه، ان شئتم.

تحدث مصري وتبعته مصرية ولبنانية ثم لبنانية أيضا ومغربية وعراقية وفلسطينة الى ان وصل الدور لعراقية أخرى. كانت هذه المهمومة تتساءل اكثر مما تتحدت. ومن بين تساؤلاتها انها تستغرب حنينها على اخوتها الذي لا يبادلونها اياه. شرحت كيف انها كانت تعيش على المساعدة الشحيحة التي تمنحها بريطانيا للعاطلين عن العمل في ايام الحصار على العراق، وكيف كانت تتقاسمها مع اخوتها. ثم انها حين حصلت على عمل بذلت كل ما في وسعها لاخراجهم من العراق. وفعلا نجحت بجلب اثنين منهم للعيش في بريطانيا. وما هي المشكلة؟ انهما الآن منعّمان واحدهما حج بيت الله قرابة عشرين مرة لكنه قاطعها ويستعيذ من زيارتها بالله ويعاملها كعدو رجيم. ثم صرخت: ليش؟ ولا ندري هل كانت تسألنا أم تسأل نفسها ام تتصور انهما يسمعانها. وكما تتوقعون، انتحبت وبكت حد الانهيار. وبين كل حسرة وحسرة، ودمعة ودمعة، كانت تنشغ وتسأل: والله لو بس اعرف ليش يكرهوني؟

وبكى داعيكم على بكائها. أما الاستاذة فقد انتهت معها الى نصيحة مفادها ان تستغل الوقت في التفكير بنفسها بدلا من ان تفكر بمن  تنكر لجميلها، وعندها ستكون حياتها أفضل. ردت العرقية: لا استطيع، فقالت الاستاذة: هذا هو  نوع الحنين المرضي اذن.

رفعت يدي مستأذنا الحديث. لكنني تحدثت بلغة شاعر لا عالم نفس. قلت للإيرانية انه ربما الذي فيها حنان وليس حنين، والعراقيات حنونات بالفطرة يا استاذتي الجليلة. ردت الاستاذة قد يكون معك حق فيما ذهبت اليه لكني احتاج ان احدثك على انفرد بعد ان تنتهي الجلسة.

وفي غرفتها قالت لي انها لاحظت بكائي. وهل لي غير ان ابكي؟ مالك هل نسيت ان المعالج النفسي لا يجوز له التعاطف مع المريض؟ لم أنس، لكن الامر خرج عن ارادتي. أتعرف ان هذا يعني انك لا تصلح لأن تكون نفسانيا؟ نعم، ومن اليوم لن احن لايام تخصصي ووداعا للأبد يا سيدتي الجميلة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

قناطر: الحرب التي تعنينا ولا تعنينا

العمود الثامن: البرلمان حين ينام !!

العمود الثامن: انتخبوا ائتلاف "لولانا" !!

العلاقات التجارية العراقية–التركية: بين توسّع التبادل وغياب التوازن

نموذج TADEO... مفتاح إصلاح التعليم الجامعي في العراق

العمود الثامن: الإلياذة العراقية

 علي حسين كان الرئيس الفرنسي الرحل فرنسوا ميتران يعشق قراءة الملحمة الإغريقية "الإلياذة" وقد أخبر ذات يوم رئيس الوزراء دبيير مورواو أن العالم لا يزال يعيش مفاجأة حصان طروادة. تروي لنا إلياذة هوميروس...
علي حسين

كلاكيت: تحولات السينما العراقية

 علاء المفرجي تاريخ السينما العراقية طويلٌ قياساً إلى مثيلاتها في باقي دول المنطقة، إذ إنّها لم تبدأ بالإنتاج إلاّ في منتصف أربعينيات القرن العشرين، والإنتاج الأول مُشتركٌ مع مصر. كما لم تستطع، منذ...
علاء المفرجي

تكريم ضروري، تكريم متأخر

علي بدر يقف فخري كريم، في تلك اللحظة، وهو يلقي نظرة على نصف قرن من المجازفة بالكلمة، فهو الآن شاب في الثمانين من عمره، يقف في القاعة التي احتضنت قمة الإعلام العربي في دورتها...
علي بدر

المحكمة الاتحادية العليا وموازنة 2025 -استقراء قانوني-

د. اسامة شهاب حمد الجعفري الموازنة العامة الاتحادية مسألة اجتماعية, مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمعيشة الجماهير, والتأخير في تشريعها يعني ازمة اجتماعية, ولطالما عانى المواطن العراقي من تلك الازمة دون وضع حد لتلك العادة السياسية....
د. اسامة شهاب حمد الجعفري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram