عبد العزيز لازم بين الصورة والفكرة هناك رحلة ذات مشاق لا حصر لها. فالصورة ليست رسما مستقلا، بل هي خلاصة لمدلولات تتمدد في الذهن العام وتظل راقدة لحين حلول لحظة البروق في الذهن المبدع. ان مشكلة الصورة تتركز في عدم بقائها رهن التعليق،
بل ان مضمونها يتكامل عبر تقديم نفسها الى الناظر. لكن ما هي عوامل ومحركات خلق الصورة. أنها تتكون وفق سيرورة تراكمية تجمع اطرافها من ثلاثة مصادر أساسية أولها الكلمة وثانيها حقائق الحياة الواقعية وثالثها قدرات الذهن الابداعية لمبدع الصورة. تدخل الكلمة كضوء خام يمتلك اللون الاول والمضمون الإيحائي الاوسع لكنه لاغنى عنه في بدء مشروع الخلق الابداعي ثم تشتغل العوامل الاخرى في تعزيز ودفع تكوين هيكلي يشرع في العمل في ذهن المبدع الى مديات منطقية يستمد تجسده من الواقع الخلاق. فعندما اطلقت كلمة (المدى) كان الذهن الابداعي للفنان صادق الصائغ جاهزا للتعامل مع حدث الإعلان. أن نوع الإشعاع الذي تمتلكه المفردة بسبب سعة انتشارة صار من المطلوب ضبطه وتعزيز قوة التركيز فيه. فاكتشف الفنان قوة الدائرة والشكل الدائري في تجسيد الثيمة واحتواء الاشعاع الذي يميل الى الانفلات لو ترك بدون شكل مثلما يتعرض الى التحديد القمعي لو اودع شكلا آخر. تقدم الحرف العربي بما عرف عنه بقدرة على المطواعية والقدرة على التمدد عموديا وافقيا في جهات رئيسية وتفصيلية كأداة كفوءة لرسم المخلوقات التي تحمل المعاني المضمونية لعنوان (المدى).علينا أن نفهم أولاً ماذا يعني اختيار الدائرة كشكل مهيمن على الصورة.لا يوجد شكل هندسي او فني يستوعب فكرة الامتداد مثل الدائرة. فالانحناءات التي تكون الدائرة لا تسمح برؤية حد جداري مانع للنظر يحدد الرؤية ضمن نطاقه.أن الشكل الدائري يعني تحقيق فكرة الامتداد اللانهائي ومن هذا نتمدد نحن ايضا الى التوسع في فهمنا لهذا الامتداد عبر مقارنته بالارض نفسها. وقد حاول احد الازهريين المتنورين اثبات اعتراف القرآن الكريم بكروية الارض واندفع بقوة لاثبات ذلك من خلال استشهاده بالآية القرآنية التي تقول:" والأرض مددناها " فقال ان انبساط الارض لا يحقق فكرة الامتداد بسبب محدودية الانبساط، بينما واقع كروية الارض وحده هو الذي يحقق هذه الفكرة خاصة وان الارض هي كينونة دائمة الحركة الدورانية. يتكون الشكل في عنوان " المدى " من جزءين رئيسيين هما حاوية دائرية تمنح الراية العامة لفكرة الامتداد وشكل داخلي تفصيلي تفاعلي يحقق وظيفة التماسك الداخلي لمجموعة الاذرع المتحركة ذات الحركة الدورانية ايضا. تتآلف الأذرع (الحروف) ل، م، د لتكوين سرير جاهز لاحتضان الذراعين الآخرين. لكن ذراع الألف "ى" يتكفل بتاسيس الجزء الأكبر لفكرة الدوران الذي يعني الامتداد. ولا يكتفي هذا الذراع بوظيفته تلك بل انه يقاوم حالة الانفصال المفروضة على كينونته كحرف مستقل فيتجه نحو حرف الألف "أ" الذي خرج اضطرارا من مجموعته الأصلية، أي مجموعة "السرير" لإقامة الأتصال الترابطي مع تلك المجموعة. وبذلك تنهض الكينونة المترابطة كلها للدفع بابعد مدى نحو المستقبل. أنها حركة صنعها الحرف وسخّنتها الغاية النبيلة لمؤسسة وضعت في نصب خططها اعلاء شان الحرف والكلمة وتسخيرهما لخدمة الغايات النبيلة للثقافة.يحقق هذا التكوين الفني بشواغله شيئين مترابطين هما التوغل في المديات البعيدة للمستقبل وتحقيق الاداة الفعالة للمضي بالرحلة وهي تحقيق اللحمة والتضامن بين المكونات التي تؤلف الطاقة المتحركة في المدى اللامحدود. وهي قد تشكل نوعا من التماثل مع المجتمع العراقي وحالته السائدة فهل حققت المدى ما تضمنه عنوانها من مضامين فنية واجتماعية في مسيرة السبعة أعوام؟ لقد استطاعت في اندفاعتها للأمام تحقيق ما لم تستطع المؤسسات الاخرى تحقيقه بأن تحولت الى ضرورة لا غنى عنها في الحياة الثقافية العراقية.
بمناسبة الذكرى السابعة لظهور (المدى)..الخطاب البلاغي في عنوان " المدى "
نشر في: 4 أغسطس, 2010: 06:25 م