لطفية الدليمي
سعيدٌ من يعرف كيف السبيل لمداواة ضجره واعتلال مزاجه. كلّما وجدتُني ضَجِرَةً مثقلة بما يعطّلُ رغبتي وقدرتي على الكتابة أو القراءة أراني ألتجئ إلى ترياقيْن ناجعيْن: منتخباتٌ من الموسيقى الكلاسيكية، وقراءات في الماركسية. أنا ماركسية الهوى.
هذا إعلانٌ أحبّه وأراه ممثلاً لبادرة أمل في حقبة تاريخية سعى كثيرون منذ أزمان بعيدة، منذ ماقبل الحرب العالمية الثانية وحتى بدايات العقد الأخير من القرن العشرين، لإسقاطها أو، في أقلّ تقدير، تشويه أسسها الفكرية ومتبنياتها الانسانية، ثمّ عندما تهاوت قلاع الاتحاد السوفييتي راحوا يعدّلون في شكل ووسائل حربهم المعلنة والمضمرة على (الماركسية).
للماركسية سحرُها وألقها الفكري والنفسي والروحي. كلّما تذكّر أحدنا الايام الخوالي عندما كانت الماركسية في أوج تألّقها فإنه يستذكرُ أفواجاً من شباب وشابات، مترعين بالأمل والرغبة المتفجرة في صناعة أفق إنساني أفضل وأكثر عدالة. هذه المفردات بذاتها (العدالة الاجتماعية وظروف إنسانية لعيش أكبر عدد من الناس) يراها كثيرون، بقصدية أو ببراءة، معالمَ نظرية طوباوية. هنا الاشكالية: هم أرادوا عبر ضجيج إعلامي صاخب يمتلكون وسائله الخبيثة تأكيد هذه الرؤية وترويج قناعات على مستوى كونيّ مفادُها أنّ الماركسية نظرية غير علمية (علم زائف كما يسميها فيلسوف العلم كارل بوبر). هل التطلّعات اليوتوبية محرّمة؟ كيف يمكن عيشُ حياة ثرية من غير أفق يوتوبي يحرّكها؟ ثمّ هل أنّ الرأسمالية (وهي الضديد الايديولوجي للماركسية) نظرية علمية؟ سيجيب كثيرون أنّ علمية نظريةٍ ما في حقل الفكر والسياسة إنما يقاس نجاحها بمفاعيلها المرئية على الارض. هل يمكن أن نتناسى النجاحات الباهرة التي حققتها بلدان إشتراكية؟ وهل يمكن أن نتناسى المزالق الخطيرة التي قادتنا إليها الرأسمالية غير مرّة؟
وقف كليمنت آتلي، رئيس الوزراء البريطاني الذي أنتُخِب بديلاً لتشرشل عقب الحرب العالمية الثانية في البرلمان البريطاني قائلاً بنبرة روحانية: نسعى لبناء مدينة على الجبل، في إشارة إلى الرمز الديني الانجيلي للمدينة التي تسود فيها قيم الحق والعدالة بمقياس إلهي. كانت بريطانيا في عهد آتلي وماتلاه – إلى حدود أقلّ ربما – إشتراكية فيها رائحة ماركسية: تعليم مجاني، مواصلات تديرها الحكومة، نظام رعاية صحية ممتازة للجميع، نقابات عمالية نشطة،،،، إلخ. إستمرّ الحال حتى جاءت مارغريت تاتشر فقلبت الوضع تماماً واعتمدت سياسة عدائية تجاه النقابات العمالية وصارت تبشّرُ بسياسات إقتصادية نيوليبرالية متغوّلة يعضّدها في هذا رونالد ريغان في الولايات المتحدة الامريكية. النيوليبرالية طور جديد في الرأسمالية يسعى لشطب كلّ الثغرات التي يمكن منها شمّ رائحة إنسانية. المال (والمشتقات المالية) هو السيد المطاع في الاقتصاد النيوليبرالي. أردتُ القول أنّ الاشتراكية المصبوغة بفرشاة ماركسية، وكيفما تلوّنت أشكالها وتعدّدت تطبيقاتها، إنما هي في النهاية نزوعٌ إنساني عالمي يتعالى على محدّدات الزمان والمكان والبيئات المحلية.
من المثير للفكر أنّ كُثراً من مفكّري العالم وفلاسفته كانوا ذوي منازع يسارية. ربما يكون برتراند رسل المثال الاكثر تمثيلاً لهؤلاء، تُعضّده قائمة طويلة من الادباء وأساتذة الجامعات الغربية ومخرجي الافلام السينمائية والاقتصاديين وعلماء الاجتماع،،،. إنّ قراءة قوائم الاتهام المكارثية في خمسينات القرن الماضي تكشف لنا حجم التأثير الماركسي وقدرته على ملامسة أوتار القلوب والعقول حتى لو جاء مغلّفاً بغطاء شيوعي.
كانت الحجّة الرأسمالية المضادة للماركسية أنّ الأخيرة لاتتفق مع نزوعات الفردانية ورغبة الانسان الطبيعية في التملّك إلى حدود الجشع الطاغي والاستئثار القبيح. هذا مايقوله آدم سمث في كتابه (ثروة الامم) الذي صار الكتاب المقدّس للرأسمالية، ثمّ زاد منظّرو الرأسمالية الكبار في تأكيد هذه الخصيصة البشرية. هنا يمكن القول: كلّ خصيصة بشرية يمكن ردعها - أو في الاقل وضع سقف لها – بقانون، والقوانين التنظيمية هي روح المجتمعات المعاصرة. الرأسمالية تفترضُ أنّ الموارد التي يتقاتل عليها البشر (أي المال بالتحديد) هي موارد غير ناضبة تتيح إمكانية تملّك ماشاء منها القادر من البشر من غير نهاية منظورة. هل هذه حقيقة مشهودة على الارض؟ إستفادت الرأسمالية الامريكية من قوانين مؤتمر بريتون وودز الذي عقِد عقب الحرب العالمية الثانية عندما صار بمستطاعها طبعُ ماتشاء من دولارات من غير سقوف ضاغطة. هذه الهيمنة الدولارية هي التي مكّنت الرأسمالية الامريكية من شنّ حروب إقتصادية ضارية تجاه البلدان التي لاتتفق مع هواها السياسي والاقتصادي، وفي الوقت نفسه تكشف لنا هذه الهيمنة جزءاً من طبيعة الصراع الجاري حالياً حيث يراد لجمُ هذه الهيمنة الدولارية وكبح جماحها وإنشاء نظام عالمي إقتصادي جديد.
يندهش المرء كثيراً في أيامنا هذه حيث روسيا البوتينية صارت حاملة لمشعل القيصرية والكنيسة الارثوذكسية. أرى أنّ من حقّ الروس أن يقاتلوا الغرب باستخدام وسائل تختلف عن وسائل السلف السوفييتي. هم عرفوا أنّ اللعبة إقتصادية / آيديولوجية مركّبة ومن الضرورة القصوى زجّ التقاليد الارثوذكسية والارث القيصري في هذه الحرب. من الخطأ الاستراتيجي الجسيم ترك عدوك يلعب بأدوات لاتملك نظائرها النوعية المضادة له.
الماركسية لم تفشل. هل نجحت الرأسمالية أساساً في سياق انساني وليس في سياقات ضيقة محدودة؟ وفّرت البلدان الاشتراكية نظام سكن وتعليم وصحة مجانيا. هل فعلت أمريكا هذا؟ رأينا كيف إكتشف الروس الكذبة الكبرى بعد إنهيار الاتحاد السوفييتي. صار الغرب يتمنّن عليهم بحمولات من الملابس العتيقة (البالة). كنّا نسمعُ أنّ الفتيات الروسيات يتقاتلن في سبيل الحصول على جوارب نايلون أو سيكارة (كنت)، وسمعنا أيضاً عن الضخ الاعلامي المقصود لمشاهد الطوابير المنتظرة لبعض الزبد والخبز. عرف الروس الاخدوعة التي إعتمدها الغرب في حربه الباردة.
إنها واحدةٌ من طرائف عصرنا أن يوصف بوتين باتباع أكثر السياسات اليمينية تطرفاً؛ في حين أنّ الحزب الديمقراطي الامريكي صار يوصف بالداعم القوي لليسار. أيُّ يسار هذا؟ إنه اليسار الامريكي الذي يمثلُ إمتداداً لسلفه اليميني؛ لكنّ الفرق الجوهري هو إعتماد اليسار الجديد على سياسات ثقافية بديلاً للسياسات الايديولوجية والاقتصادية الصارخة لأنّ السياسات الاخيرة - كما يبدو - تؤذِنُ بأفول قريب.
صارت ثقافة النسوية المتطرفة، والنسبوية الاخلاقية، وعالم مابعد الحداثة ومابعد الحقيقة، وسياسات الهوية، والاقليات العرقية،،، هي بعض أدوات اليسار الجديد في مناوأة الماركسية، وأظنُّ أننا لو أجرينا مسحاً سريعاً لطبيعة المناهج الدراسية المعتمدة في كبريات الجامعات الامريكية فسنرى تأكيداً قصدياً على هذه السياسات الثقافية. الغاية مرسومة بدقّة وبتخابث المتمرّسين في الحروب الايديولوجية: تفريغ السرديات الماركسية الكبرى من قيمتها الانسانية العالمية، وخلق مسارب فرعية لمفاهيم صغيرة يمكن من خلالها جذب أنظار وقلوب جماعات بشرية مخصوصة (السود واللاتينيون مثلاً). هي الحرب الباردة الامريكية الجديدة، عبر بوابة السياسات الثقافية، على الماركسية الاصيلة.
لاتعنينا الجغرافيا (يسار أو يمين) ولاالايديولوجيا (اشتراكية أو شيوعية أو رأسمالية أو نيوليبرالية) إلا بمقدار الارتفاع بمقادير الانسان وحظوظه في حياة كريمة أو بعضٍ منها في الاقلّ. يكفي الماركسيةَ شرفُ المحاولة وبعضُ نجاحٍ طورد وقوتل بضراوة؛ لكنّ الرأسمالية طردت العاجزين عن دفع فواتير منازلهم وجعلتهم يبكون وهم يتطلعون لمنازلهم الفارغة إبان الازمة المالية لعام 2008. هذا فعلٌ لن يقبل به ماركسيون خلصاء.
الماركسية ليست نوستالجيا فحسب. إنها ضرورة لكبح جماح التغوّل البشري وسطوة أناسٍ لن يهمّهم إحتراق العالم وهم يكتفون بتذوّق (الكافيار) في يخوتهم متعددة الطوابق....!!