اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > جلالة الفنان فائق حسن المعظم

جلالة الفنان فائق حسن المعظم

نشر في: 17 إبريل, 2023: 12:20 ص

فيصل لعيبي صاحي

أول مرة أسمع فيها إسم الفنان فائق حسن كانت في عام 1961 من قبل أستاذنا الجليل الفنان محمد راضي عبد الله له الذكر العطر ونحن في الصف الأول في متوسطة الجمهورية في محلة الجمهورية في البصرة.

كان هذا الأستاذ يلقي علينا محاضرات شفوية عن الفن العراقي والفنانين المهمين وكان فائق حسن وجواد سليم من أوائل من تطرق إليهم.

وفي عام 1964 توجهنا: الراحلان صلاح جياد المسعودي، حسن شويل وكاتب هذه المادة من البصرة الى بغداد لتقديم أوراقنا للدخول الى معهد الفنون الجميلة ببغداد. وصلنا محطة غربي بغداد في الكرخ في الصباح الباكر وتوجهنا مباشرة الى معهد الفنون الجميلة. بقينا ننتظرإفتتاح المعهد لأبوابه فترة، وقد تجمعنا ومن مختلف المحافظات العراقية وإختلاف الأجناس الفنية من مسرح وموسيقى ورسم ونحت، ومع فتح أبواب المعهد، دخلنا بأمتعتنا وملفاتنا ورسومنا التي حملناها معنا من مدننا النائية، وقفنا ننتظر السماح لنا لتقديم ملفات القبول و كنا قد ملأناها بالمعلومات المطلوبة.

فجأة مر من أمامنا شخص، فقال الذي بجانبي، وهو من سكنة بغداد. هذا الأستاذ حميد المحل ثم تلا ذلك عدد من الأساتذة: إسماعيل الشيخلي، الحاج ناجي الراوي بهنام ميخائل، نزيهة سليم، التي ضحكت علينا ونحن في تلك الهيئة والذهول، بعدها أطل رجل أسمر نحيف وفي فمه الغليون، فإنفتح التجمع ليفسح المجال له، وهمس جاري قائلاً: هذا الأستاذ فائق حسن. لم اكن قد رأيت صورةً له قبلاً، كانت له هيبة مختلفة ومهابة خاصة، رغم بساطة ملبسه ومشيته وسلوكه، فصبح علينا بالخير مع إبتسامة أظهرت أسنانه ماسكة بالغليون.

وبعد إمتحان عملي في الرسم، تم قبولنا في المعهد وقد أثنت علينا نحن الثلاثة (صلاح جياد، حسن شويل وكاتب هذه المادة) لجنة القبول وأشادوا بأساتذتنا الذين درسونا الفن في البصرة وسألونا عن بعضهم.

لم يكن طلبة المعهد في تلك السنوات من ضمن طلبة الفنان فائق حسن، فقد كان يدرّس طلبة الأكاديمية التي تحولت بعد إنقلاب 8 شباط عام 1963 الى معهد إعداد المدرسين، لأن طلبتها هم من خريجي معهد الفنون سابقاً أو الثانوية وليس مثلنا نحن خريجو المتوسطة، لكننا نظراً لشهرة الأستاذ فائق كنا نمر بين الحين والآخر على مرسمه عندما يبدأ في إعطاء دروسه العملية في التلوين ورسم الموديل لبعض الطلبة، لشرح الطريقة الأفضل للوصول الى نتائج أنجع لهذا النوع من الرسم. أحيانا يُخْرِجُ طلبَته الى خارج المرسم فينتشرون في حدائق المعهد، فنراه يتجول بينهم ويرشدهم خلال عملية الرسم من الطبيعة مباشرة.

كانت هذه الفرصة أيضا مناسبة لنا للتعرف على طريقة تدريسه للطلبة، كما ان الأستاذ فائق قد إنتبه الى البعض منا وأخذ يهتم بهم وسمح لبعضهم ان يدخلوا لمرسمه خلال تدريس طلبته. فزاد تعرفهم على أسلوبه في التعليم وكذلك سلوكه الشخصي في التعامل مع طلبته. وكثيراً ما كان يغضب على بعض الطلبة لأنهم يبدون غير قادرين على إستيعاب ملاحظاته او نصائحه لهم ويتمتم بعض الكلمات الشعبية في وصف لوحاتهم التي يعملون عليها منهيها بكلمة " يا حظي ".

ربما يمكن إعتبار فائق حسن أهم فنان عربي في رسم البوريتريت على الطريقة الأكاديمية، إذ لم يظهر فنان يجاريه في ذلك حتى هذه اللحظة رغم وجود العشرات وربما المئات من رسامي الصور الشخصية العرب الذين يصلون حد الإتقان العجيب للموديل، لكن تفوقه ليس في التشخيص الدقيق للشخص المرسوم بل في حساسية اللوحة التي يخلقها هذا العبقري، صحيح هناك بعض الأعمال المدرسية التي انتجها قد لا تصل الى مستوى مقدرته الخارقة في فن رسم الشخصيات، لكن أعماله التي يكون جاداً في رسمها، أو الأشخاص الذين يرغب في رسمهم هو شخصياً، هي أعمال لا يمكن قياسها بأي لوحة من لوحات رسامي وفناني رسم الصورالشخصية المعاصرين له والذين جاءوا بعده. فهو يجمع بين فرانس هالس البلجيكي، رابرانت الهولندي، أدكار ديكا وسارجنت الأمريكي في حساسيتهم اللونية وحركة فرشاتهم، مضافاً لها روحيته الفذة في التلوين الذي تميزه عن سائر الفنانين الأخرين في المنطقة العربية.

كان فائق حسن النقلة الأساسية والمهمة والضرورية معاً في فن الرسم في العراق بعد مرحلة الرواد الأوائل الذين مارسوا الفن قبله وكانوا أشبه بالهواة منهم بالمحترفين، إذا إستثنينا الفنان عبد القادر الرسام الذي كان خليطا من تقاليد الرسم العثماني المتأخر وتقاليد الرسم الفارسي في الفترة القجارية، ولكنه أيضاً إختط له أسلوبا مرهفاً ومتميزاً أبعده عن تقاليد المدرسة الغربية السائدة آنذاك.

لقد دخل الرسم العراقي من خلال الفنان فائق حسن المعاصرة التي كان في حاجة ماسة لها. لأن اللوحة قبل فائق كانت لوحة لاتحتوي على مشاعر أو لنقل لاتعكس عاطفة الفنان كما ظهرت بعد ذلك في لوحته، من حيث حركة الفرشاة وطبقة اللون ونوع التلوين وعكس الموضوع و التربة العراقية بكل تنوعاتها اللونية وتناقضاتها وتضاداتها على اللوحة المسندية، التي تعلق على الجدار في بيوت محبي الفن والثقافة من الموسورين عندنا.

كان فائق حسن يسحن بودر الألوان في مرسمه ويخلق ألوانه الخاصة التي قد لا يستطيع الحصول عليها من شركات صناعة الألوان الاوربية. ولونه فريد لا ينطبق إلا على التربة العراقية والسحنة العراقية والجو العراقي. ألوان ليس لها مثيل في أعمال الآخرين و إذا إعتبرنا من تبعه وحاول تقليده لتقترب من ألوانه ظاهرياً، فهي بعيدة عن روحيته وعاطفته التي يضفيها على جو العمل الفني نفسه، مما يجعل تلك الأعمال عبارة عن صدى فقط، وليس لها وزناً فنياً لذاتها، إذا ما تركنا المهارة جانباً. كانت حركة الفرشاة قبل فائق حسن خجلة مترددة غير متاكدة من توجهها وبطيئة وغير مبهرة وشحيحة في المادة و في الألوان. لوحة تشبه غيرها ولاتملك موضوعها الخاص بالمعنى الفني والجمالي المطلوب. لوحة تنتمي الى مكان أخر، اكثر من إنتمائِها الى بيئتها الأصلية، بإستثناء مرة أخرى، عبد القادر الرسام.

يتيم لم يكمل دراسته وفقير من منطقة شعبية، تضعه صدفة، لا يمكن تصورها حتى في الروايات المشحونة بالأعاجيب، امام ملك البلاد وهو يتنزه في حديقة قصره، حيث كان يرافق خاله بستاني البلاط الملكي. فيلفت نظر الملك الراحل فيصل الأول بن الشريف حسين بن علي الهاشمي وسليل الأسرة النبوية. صدفة جاءت بالملك الهاشمي ليتربع على عرش العراق بمساعدة البريطانيين الذي أسدى لهم خدمات لا تحصى للتخلص من الدولة العثمانية في المنطقة العربية ويتيم من أصول شعبية فقيرة يملك مواهب لا تقل عن مواهب ملك، ذاك في السياسة وهذا في الرسم والخلق الفني.

يقرر الملك بعد ان اعجبته رسوم الصبي أن يرسله الى فرنسا لدراسة الفن ويوعد خاله بذلك. لكن الصدف أيضاً تقتل الملك قبل أن يوفي بوعده.

ظل الخال محتفظا بوعد الملك الراحل، ليكلم الملك الجديد غازي الأول حوله وهذا ما حصل، فسافر الصبي فائق حسن الى فرنسا متخذاً طريق البر الى المتوسط ومنه الى ميناء تريستا الإيطالي بحراً ثم باريس بواسطة القطار. كان ذلك عام 1935، وعاد بعد ثلاث سنوات محرزا شهادة التفوق. وقد احب فائق هناك وخفق قلبه للجمال في باريس ما قبل الحرب العالمية الثانية، لكنه كان جديداً على الحياة وغير قادر على ضمان حياة طيبة لفتاته الباريسية (جاكلين بوفيس) لو عاد بها الى العراق، فإنتهت العلاقة بالدموع والأسى وبان تتزوج زميله (سييَفر) - لكن قلبه ظل معها. توجد لوحة لها جلبها معه، لكننا لم نجدها مع الأعمال المعروفة له عندنا في بغداد - ربما احرقتها زوجته ( سوزان كوتييه) التي تعرف عليها في أحدى زياراته لفرنسا، في منطقة النورماندي عندما نزل في الفندق الذي تملكه والدتها.

لعب الفنان فائق حسن دوراً محورياً في الحياة الثقافية والفنية في المجتمع البغدادي وأرسى قواعد مهمة في التعامل مع مهنة الرسم والفن ودور الفنان في المجتمع. وإذا حسبنا موقعه الإجتماعي البسيط في مجتمع يحسب لدور العوائل والبيوتات الكبيرة حسابا كبيراً، فإن دوره يبدو بمصاف ادوار الشخصيات التي غيرت من قيم المجتمعات ومواقفها وحتى رؤاها للأشياء ومنها الفن طبعاً. لم يرتكن لدور الفنان البوهيمي كما بدا للعديد من فنانينا وكما ساهم هو في بداياته بممارسات متشابهة، كانت مهمته أكبر من ان يهتم بذاته فقط، لهذا تخلى عن سهرات الفنانين الذين كانوا يسهرونها عنده في المنزل أو في بيتوت اخرى مثل بيت المعمار رفعة الجادرجي او الدكتور خالد القصاب. خاصة بعد زواجه من سوزان ام ولده هابيل.، التي نعتت زملاءه بـ " المتوحشين " بسبب تلك السهرات الصاخبة وهي المنحدرة من عائلة محافظة وربما اجبرته على التخلي عن مثل هذه السهرات* للتفرغ لحياته الجديدة ومتطلباتها المختلفة، ومن جانبه أيضاً ادرك أن دوره ليس هناك بل في معهد الفنون الجميلة، عرينه وقلعته التي لم يفارقها حتى بعد تقاعده. فعالمه هو المعهد و مرسمه، يرتاح لرائحة التربنتاين والزيوت والألوان وبين قماش الرسم ووجوه طلبته، الذين يجلّونه كنبي.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ليفربول يخسر وديا أمام بريستون

مجلس الخدمة ينشر توزيع حملة الشهادات والاوائل المعينين حديثا

البرلمان يشكل لجنة إثر التجاوزات على اقتصاد العراق وأراضيه

بايدن يرفض دعوات الانسحاب من الانتخابات الامريكية : انتظروني الأسبوع المقبل

وفاة محافظ نينوى الأسبق دريد كشمولة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram