ستار كاووش
حين دخلتُ هولندا لأول مرة، لم يكن معي سوى حقيبتين صغيرتين جداً، واحدة منهما أحملها بيدي، وفيها القليل من الملابس، أما الحقيبة الثانية فكانت موجودة في ذهني، وهي تحتوي على موهبتي وأفكاري وطموحات تريد أن تَفتَحَ تلك الحقيبة الصغيرة وتقفز الى هذا الفضاء الجديد والمفتوح.
هكذا دخلتُ هولندا التي إنفتحَ لونها الأخضر أمامي مثل حديقة مترامية الأطراف. ومع كل خطوة جديدة أخطوها، تخطوا معي الكثير من التساؤلات والأفكار التي تحتاج الى حلول ومفاتيح لم أكن أملكها في جيبي الذي لم يكن يتسع سوى لبعض الفلورينات التي تعينني على يومي. كانت اللغة هي الحاجز الأول، يقابلها أيضاً تقاليد البلد وثقافته التي تمتد الى قرون بعيدة. بدا لي إن الأمر لم يكن سهلاً على شخصٍ في مثل عمري، لكني لم أعر هذه المسألة إهتماماً كبيراً، لأني أعرف بأن الإنسان حين يكون لديه هدف معين، يمكنه تحقيقه بالمثابرة والتعلم، كذلك يمكنه أن يضيف لمهاراته مهارات جديدة في أي وقت وأي عمر ومكان. هكذا بدأت بتعلم اللغة الهولندية وأنا في الواحدة والأربعين من العمر، وبدأت بذلك بنفسي، قبل أن يأتي الموعد الرسمي الذي حددته البلدية لموعد الدراسة.
السهولة والصعوبة بابان متقابلان، ونحن من يختار الباب الصحيح والمناسب، هكذا قلتُ لنفسي وأنا أمضي فاتحاً عيني وقلبي في هذا البلد، متابعاً ومفكراً بكل التفاصيل التي تمر أمامي. وحتى لو كانت التفاصيل أقل جمالاً مما تتوقعه وتترجاه، فعليك إيجاد الجمال الداخلي والحقيقي للتفاصيل، أن تمسك روح الأشياء وتنثرها حولك وأمامك. كنتُ أراقب فلاحِي درينته وفريسلاند وهم يبدؤون صباحهم بفرح غامر، حيث يفتحون بأيديهم التي تشبه الأرض، بوابات مزارعهم، فتخرج الأبقار من الإصطبلات وتتقافز بعد أن تُلامس حوافرها العشب الأخضر الطري. كذلك إنتبهتُ كثيراً للبحارة وصيادي السمك الذين لوَّحت الشمس وجوههم الحمراء وهم يرفعون صواري السفن التي تغفوا على بحر الشمال الذي يحيط هولندا ويحتضنها بيديه كجوهرة تلتمع في شمال العالم. ومازالت تلك اللحظة التي أشرقت في روحي، ماثلة أمامي حتى هذا اليوم، وأقصدُ حين وقفتُ تحت ظلال الغيمات التي تكادُ تلامس مزارع الذرة، في ذروة ما يسمونه هنا (المناخ الهولندي) حين تترك الغيوم أماكنها وتقترب كثيراً من الأرض تاركة بقع صغيرة متناثرة من الظلال التي يكونها ضوء الشمس.
تعلمتُ أن أكون إنساناً متفائلاً، محاولاً الحفاظ على رباطة جأشي عند مواجهة الكثير من الصعوبات وحتى الخسارات التي تظهر أمامي. أواجه ذلك بروح الدعابة التي تمنحني طاقة جيدة للتحمل. لذا يمكنني القول إن الحياة مفروشة دائماً بالزهور، لو أردتُ لها أن تكون كذلك، شرط أن أعمل وأجتهد. والأهم أن أستوعب إن أية مشكلة تواجهني لا تنبع من البلد الذي أنا فيه، لكنها تتعلق بحالتي وظروفي ووضعي الشخصي، فأنا الذي جئتُ الى هنا حاملاً تلك الحقيبتين الصغيرتين، بعيداً عن بلدي الذي ولتُ فيه، مع ذلك هناك بلداً جميلاً فتحَ لي ذراعيه مرحباً ومانحاً الحرية والطمأنينة والأمل، وهذه هي الكنوز الحقيقية التي يحتاجها الإنسان في كل زمن.
ما لا يعرفه الكثيرين، هو إن الدعابة الهولندية ليس لها مثيل في العالم، إنها تشبه قصائداً صغيرة تنبثق من بساطة الفلاحين وجمال المزارع وروح المغامرة التي يحملها البحارة الذين يجوبون بحار الأرض شرقاً وغرباً، كذلك هناك الأمثلة الشعبية والأقوال الشائعة التي تلامس سمعك كل ساعات النهار وتجعلك تبتسم. لذا يكون طريقي للمرسم معبداً بهذه التفاصيل، فأحاول أن ألتقط في ذهني كل ما يمر بطريقي من تفاصيل كما يلتقط الطائر غذاءه ويطير نحو عشه. وأتذكر وقت معرضي قبل بضعة سنوات في دبي، حين حضر القنصل الهولندي للإفتتاح، وبعد حديث قصير معه، إلتفتَ نحوي وقال مداعباً: أرى إنك أصبحت قالب جبن. (وهو تعبير يطلقه الهولنديون على الهولندي القح أو المتأصل) فأجبته ضاحكاً وأنا أمرر سبابتي على وجهي الأسمر (نعم بالتأكيد، لكنني جبن معتق) فضحكنا، وأكملنا جولتنا في المعرض.