اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > نوبل الادب : أين ذهبت رصانة الامس ؟

نوبل الادب : أين ذهبت رصانة الامس ؟

نشر في: 18 إبريل, 2023: 11:36 م

لطفية الدليمي

لم تعُدْ نوبل الأدب التي عرفناها من قبلُ كما كانت . صارت نوبل أخرى هجينة وغريبة على ذائقتنا الأدبية وهواجسنا الفلسفية ومثاباتنا الفكرية العالية . الدنيا صارت غير الدنيا التي نعرف :

هذا صحيح بالطبع وهو أحد طبائع التطوّر البشري ؛ لكن ليس كلّ تغيّر ارتقاءً نحو الاعالي المتقدمة نوعياً عمّا سبقها . ذهب جيلُ المعلّمين الكبار الذين تشرّفتْ نوبل بأن حفرت أسماءهم على لوائحها ، كانوا أساطين أدب على شاكلة هرمان هسّة وغابرييل غارسيا ماركيز ودوريس ليسنغ ،،، ، إنقلبت الرصانة الأدبية ملاعبة خفيفة للأفكار من بعيد تحت قناع أدب مابعد الحداثة ، واستحالت الدسامة الفلسفية حفراً في تراكمات السيرة الشخصية التي قد لاتعدو أكثر من حفنة وقائع عادية يمكنُ أن تحصل لكثيرين منّا . أليس هذا توصيفاً دقيقاً لأعمال آني إرنو المتوّجة على عرش نوبل الأدبية لعام ( 2022 ) ؟ أنا أحسبه كذلك .

دعونا ننطلق في رحلة فكرية متخيلة . هل كان يمكن لآني إرنو أن تقطف جائزة نوبل الأدبية قبل خمسين أو أربعين أو حتى عشرين عاماً ؟ هل تكفي شجاعتها وجرأتها في الكشف عن مناطق شديدة الغور من حياتها الشخصية لأن تحوز نوبل الادب ؟ متغيراتٌ كثيرة لحقت بنوبل وجعلتنا نفقدُ حماستنا السابقة في التطلّع إلى من سيفوز بها كلّ سنة كما كنا نفعلُ في سنوات سابقات . صار أمرُ الجائزة والفائز بها يمرُّ بنا وكأنه إعلان يومي عابر من الإعلانات التسويقية التي صارت تنهمرُ علينا مثل شلال لايتوقف .

ربما الخصيصة الوحيدة التي لاتكاد نوبل الأدبية تفارقها هي دورانها في مدارات الثقافة الغربية . قلتُ : الثقافة الغربية ولم أقل الأدب الغربي ؛ لأنّ أباطرة نوبل شاؤوا توسيع تخوم مملكة الادب فضمّوا لها أقاليم من ألوان ثقافية شتى كانت كتابة أغاني البوب واحدة منها . إنه بعضُ سمات التجديد الذي أرادته نوبل الأدب .

نوبل الأدبية ونوبل غير الأدبية : الاشكالية التأسيسية

نوبل غير الأدبية هي جوائز نوبل الممنوحة في حقول الطب والفيزياء والكيمياء والاقتصاد والسلام . هذه ( النوابل ) غير الأدبية تختلف نوعياً عن نوبل الادبية ، ويمكن توضيح طبيعة هذا الاختلاف بحكاية صغيرة .

حصل قبل بضع سنوات ، وبالتحديد عام 2016 ، أن أنجِزَتْ انعطافةٌ علمية ممّا يوصفُ في العادة بأنه إنعطافة كبرى Breakthrough ، وأعني به إكتشاف الموجات الثقالية Gravitational Waves ، وهو إكتشاف ذو طبيعة ثورية لارتباطه الجوهري بمفاهيمنا الحاضرة عن نظرية النسبية العامة ، وبعدما أعلِنت جوائز نوبل للفيزياء ذلك العام لم ترد أسماء الفيزيائيين مكتشفي تلك الموجات في أسماء الفائزين ؛ فساد الوجوم واللغط بين الناس العارفين بشأن الفيزياء وخفاياها ، وعندما سئل المسؤولون عن جائزة نوبل في الفيزياء عن السبب قالوا أنّ الاكتشاف جاء قريباً من موعد إعلان الجائزة ولم يتسنّ لهم مراجعته والتدقيق في كلّ تفاصيله . بعد عام واحد فحسب ، أي عام 2017 ، تقاسم الفيزيائيون الثلاثة مكتشفو الموجات الثقالية جائزة نوبل . هذا دليل واحد فحسب على المديات العالية لنزاهة نوبل في غير ميدان الأدب .

إنّ أصل إشكالية نوبل الأدب ليس ذا علاقة بطبيعة التأسيس المفاهيمي لكلّ من العلم والأدب – ذلك التأسيس الذي يوضع في إطار عبارة إختزالية مفادُها ( موضوعية العلم وذاتية الأدب ) ؛ بل يعود أصلُ الاشكالية إلى نمطية مختلّة في نزاهة شبكة العلاقات التي تشكّل البنية البيروقراطية لكلّ من المؤسسة العلمية والأدبية ؛ إذ لو أعملنا ذاكرتنا في إحدى جوائز نوبل غير الأدبية عبر السنوات السابقة لرأينا غياب المراهنات و مزادات التصويت للأسماء المرشّحة ؛ بل على العكس هناك شبه إجماع على الأسماء الجديرة بالفوز في حقول الطبّ والفيزياء والكيمياء والاقتصاد – باستثناء جائزة السلام التي ستظلّ مثلبة ووصمة معيبة في تاريخ نوبل - . واضحٌ أنّ وراء تسخين مزادات الخيول الأدبية شبكةً من دور النشر والعلاقات التجارية المعنية باعتبارات التوزيع وتحقيق أقصى الأرباح المأمولة .

تذهبُ معظم جوائز نوبل غير الأدبية إلى غربيين ( مع استثناءات محسوبة في حقلي الاقتصاد والسلام ) ، وهو أمرٌ يمكن تفهّمه وبالتالي تسويغه . صار العلمُ والتقنية مناشط تتطلبُ تخصيصات مالية متضخمة لاتقدرُ على تحمّل أعبائها سوى الدول الغنية ، وهي في معظمها دولٌ تنتمي إلى الغرب ؛ لذا لم ترتفع أصواتٌ ترى في جوائز نوبل غير الأدبية إنحيازاً للغرب . ذلك واقعُ حال نشهده على الارض ومامِن سبيل لنقضه أو تكذيبه أو الالتفاف عليه .

نوبل الأدب التي ترى مالانرى

يؤكّد أباطرة نوبل الأدبية أنّ المعيار الأساسي في الجائزة هو الجدارة الأدبية Literary Merit . لن أقتنع يوماً – وأحسبُ كثيرين يشاركونني قناعتي هذه – أنّ آني إرنو أعلى قيمة أدبية من مارغريت آتوود أو ميلان كونديرا . المقارنة غير واردة بأي مقياس من المقاييس . ربما سيقول هؤلاء الأباطرة أنهم يرون غير مانرى ، ولو فعلوا فأحسبهم سيتّكئون على قاعدة الذائقة الذاتية للأدب ، وتلك مخاتلة بيّنة لأنّ الميزة الذاتية لاتنفي التميّز الحِرَفي والصنعة المجوّدة في الكتابة . من جانبي أرى - لو أنّ المعايير النوبلية حقيقية - فربما سيكون الروائي والكاتب البنغالي ( ضياء حيدر رحمن ) الذي كتب روايته المبهرة ( في ضوء مانعرفه In the Light of What We Know ) مستحقاً لنوبل الأدب لو كانت معايير الجدارة الأدبية هي الفاصلة .

ماذا يعني أن تكون كاتباً عالمياً ؟

تعني جائزة نوبل في الأدب أنّ حائزها يفي بشروط العالمية ؛ أي صار يقاربُ موضوعات ذات اهتمامات عالمية بدلاً من الانزواء في قعر المحلية الضيقة . هذا أمرٌ له تبعاته الخطيرة ، وقد أفضتُ في كتابي المترجم ( الرواية العالمية : التناول الروائي للعالم في القرن الحادي والعشرين ) في الكشف عن تبعات ومفاعيل هذه الظاهرة .

تتمظهر السطوة الغربية على الادب العالمي في سطوة الموضوعات المحببة للمؤسسة الادبية الغربية ؛ إذ منذ اللحظة الأولى التي يدركُ فيها الكاتب أنه يخطط لكي يخاطب جمهوراً عالمياً بدل الجمهور المحلي الذي إعتاده فإنّ طبيعة كتابته ستكون عرضة لتغيير جوهري ، ويلحظ المرء بخاصة ميلاً طاغياً للكتّاب لإزاحة كلّ العوائق المحلية المفترضة التي تقف عائقاً أمام الفهم العالمي ، ولطالما تردّدت هذه التهمة الأدبية غالباً وأشهِرت بوجه أعمال الكاتب هاروكي موراكامي الذي صار يعتمد لغة تبسيطية موغلة في الإستسهال الأدبي على حدّ زعم مجايليه من الكتّاب اليابانيين الآخرين .

إنّ أيّ منتج أدبي ينال حظوة وإحتفاءً من جانب النظام الرأسمالي العالمي لابدّ أن يتمّ تحييده ومن ثمّ تدجينه من جانب النسق النيوليبرالي المتغول الحاكم في العالم ؛ إذ في التحليل الأخير سنعرف أنّ كلّ ناشري الكتب هم في الغالب أذرع صغيرة للتجمعات الرأسمالية العملاقة ، وأنّ الإحتفاليات الأدبية التي تحتفي بالأدب العالمي إنما تحصل بفعل التمويل السخي لكبريات الشركات الرأسمالية في العالم . كيف يمكننا أن نتوقع في حالة مثل هذه الحالة أن يحظى عمل ذو رؤية أصيلة أو مخالفة للسائد أو خارجة عن السياق العام بمباركة وتعضيد مثل هذه القوى المالية المتغولة ؟

بهذا الفهم ، وطبقاً لهذه الرؤية ، يمكنُ اختصار الامر بالمعادلة الشرطية التالية : إذا سعيتَ لجائزة نوبل الأدبية يجبُ عليك أن تتناول موضوعات تبدو عالمية الطابع لكنها تدور في الفضاء الغربي ( على شاكلة : الاقليات ، التجارب الجنسية الذاتية ، التحولات الجندرية ، إشكاليات الهوية الذاتية والمجتمعية ،،، إلخ ) ، وأن تحظى هذه الكتابات بمباركة وتسويق مؤسسات النشر العملاقة . أما إذا فكّرت خارج هذا الصندوق فانسَ أمر نوبل . لاأحد سيهتمّ لأمرك .

نعرفُ العبارة التي تترددُ في أدبيات التنمية المستدامة : تصرّف محلياً ، فكّرْ عالمياًAct Locally , Think Globally . يمكن للمخيال الادبي البشري توظيف هذه العبارة في تناول معضلات قد تبدو غارقة في محليتها لكنها قد توفرُ حلولاً ناجعة لمعضلات ينوء بها الغرب . المؤسسة الأدبية الغربية لاتقبلُ هذا الأمر . قانونها الحاكم هو : تصرّفْ محلياً كما تشاء أنت ؛ فكّرْ عالمياً كما نشاء نحنُ !!

هذه هي الجدارة الأدبية التي يريدون .

نوبل الأدب : اشتباك السياسة ورأس المال والثقافة

تعدّت نوبل الأدب – بالتحديد – كونها امتيازاً فردياً لتصبح إكسسواراً لازماً تسعى له الدول لاستكمال مستلزمات هيبتها الجيوبوليتيكية . صارت بعضُ الدول ، وبخاصة ذات الاقتصادات الصاعدة ، ترى في نوبل الأدب موازياً للقنبلة الذرية !! باعتبار أنّ القنبلة الذرية إشارة إلى القدرة العلمية الضاربة ، ونوبل الأدب إشارة إلى التسامي الروحي في نطاق الرأسمال الرمزي ؛ ولأجل نيل الامتياز الروحي النوبلي توظفُ الدول كلّ قدرة متاحة لها للحصول على نوبل الأدب ، وثمة حكايات مخزية في هذا الشأن تطعن نزاهة نوبل الأدب يمكن للقارئ أن يعرف بعضاً منها لو شاء . تحفلُ كواليس نوبل للأدب بأفاعيل مشينة : رشاوى ، وضغوط ، وتآمر ، وصفقات . الأمر ليس بجديد ؛ بل حتى أن تشرشل يمكن أن يكون له يدٌ في هذا الشأن . كيف ؟ سأتركُ الأمر للقارئ لكي يتابع هذه التفاصيل بجهوده الشخصية ، وسيكون في مستطاعه – لو إعتمد الجدية والمثابرة – قراءة حيثيات مدعومة بشهادات من أفراد ينتمون للإمبراطورية النوبلية .

هل تتصورون – مثلاً – أنّ دولة أرسلت في إحدى السنوات ، وبواسطة أحد دبلوماسييها ، عشرة صناديق من الفستق الذي تشتهرُ بزراعته إلى كلّ عضو من أعضاء اللجنة النوبلية ؟ إذا كان الأمر هكذا ؛ فكم تستطيعُ الدول ذات الاقتصادات المتغولة أن تفعل من أفاعيل في لجنة يقبلُ أعضاؤها بضعة صناديق فستق من دولة عالم- ثالثية ؟

كيف يكون الفساد والانحياز إذا لم يكن هذا فساداً وانحيازاً بأجلى صوره الممكنة؟

نوبل الأدب : مقترحٌ لحلّ إشكالية الانحياز الغربي

غالت نوبل الأدبية كثيراً في الانحياز لفضاء الأدب الغربي والدوران في أفلاكه . قد تكون بعضُ مسوّغات هذا الانحياز مفهومة – مثلما أوضحتُ في فقرات سابقة - ؛ لكنها تظلُّ غير مقبولة وتشكّلُ ثُلْمة في نزاهة الضمير النوبلي . هل من مخرجٍ لهذه الاشكالية ؟ ربما يجدي هذا المقترح أن تعتمد نوبل الأدب ستراتيجية المحاصصة النوبلية الثلاثية إيفاءً بمتطلبات العدالة الجندرية والجغرافية ؛ بمعنى أن تتوزّع الجائزة كلّ سنة على ثلاثة أسماء أدبية ، واحدة لكاتب ، وثانية لكاتبة ، وثالثة لكاتب أو كاتبة من الجغرافية الموصوفة بغير الانتماء لعالم الغرب ممثلاً في حواضره الكوسموبوليتانية ، ويمكنُ حصرُ هذه الجغرافية في ( آسيا وأفريقيا والبحر الكاريبي وأمريكا الجنوبية ) حصرياً . التسويغ لهذا المقترح واضحٌ : لماذا ينفرد اسمٌ واحد كل سنة بهذه الجائزة بدلاً من إسمين أو ثلاثة مثلما يحصل مع نوبل الأدب أو الفيزياء أو الكيمياء أو حتى ( أحياناً ) السلام والإقتصاد ؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ليفربول يخسر وديا أمام بريستون

مجلس الخدمة ينشر توزيع حملة الشهادات والاوائل المعينين حديثا

البرلمان يشكل لجنة إثر التجاوزات على اقتصاد العراق وأراضيه

بايدن يرفض دعوات الانسحاب من الانتخابات الامريكية : انتظروني الأسبوع المقبل

وفاة محافظ نينوى الأسبق دريد كشمولة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram