طالب عبد العزيز
قبل سنتين ابتعتُ لابني الاخير( آدم) هاتفاً ذكيّاً من متجر صغير، بسوق البصرة القديمة، يقابل مطعم كباب المركزي، الذي يلي مبنى السجن العثماني ظهره، لم يعد قائماً اليوم، (أحمد) أبني هو الذي دلّني على متجر الهواتف هذا، وحين خرجنا نحن الثلاثة، وكان آدم سعيداً جداً، قلتُ لهما بأنَّ أبي كان ياخذنا أنا وشقيقي الكبير(عبد الواحد)الى المطعم هذا، واشرتُ الى الركن الذي كنا نختاره مجلساً لنا، قرب الزجاجة العريضة، حيث يمكننا رؤية المارة المتعجلين دائماً. أتحدثُ عن نهاية خمسينات القرن الماضي.
لم يحدثني أحمد ابني الاكبر عن ذاكرته، يوم كنتُ أصحبه وشقيقه عاصم الى المطعم هذا قبل أكثر من ثلاثين سنة، في فعل من أفعال أردت أن أكررها، باستحضار ما كان يفعله الوالدُ لنا انا وشقيقي، لكنني فوجئت بقوله: قبل سنوات ثلاث كنت قد جئتُ بابنيّْ (عبد العزيز ومصطفى) الى المطعم هذا، واخترنا مجلساً قرب الزجاجة العريضة تلك، أكلنا اللحم الكباب بالبصل والطماطم وأوراق الريحان، ومازلت اكررها معهما، في الشهر والشهرين، ثم انه استدرك:كنتَ تاخذنا اليه، انا وعاصم، وأعجبُ من اختيارك المكان ذاته، أنا أيضاً كنتُ احرص على ان نكون حيث كنت تُجلسنا، قال أحمد، لكنْ، يحدث أننا لا نجد مجلسنا قرب الزجاجة العريضة فأشعر بالضيق والحرج.
في العام الماضي أخذتْ مفرزةٌ للشرطة أحمدَ الى المخفر، يبدو أنه أرتكب مخالفة ما، أو أنَّ الشرطة بما عرفت من سوء ونذالة تخترع التهم لمن تجده طُعْماً سهلاً، فكان صيدها ذاك اليوم، وظل هناك اليومين والثلاثة، وفي محاولاتي للإفراج عنه كانت الطريق الى المخفر تمرُّ على مبنى السجن العثماني القديم، قبالة موقف باص مصلحة نقل الركاب، حيث سُجِن أخي من أمّي(سالم) قبل نحو من ستين سنة. كان يعمل حارساً في مدرسة بحيّ الموفقية(جبل خمّاس) وفي ليلة الجمعة التي نام فيها مع زوجته، تسوّر اللصوصُ سياج المدرسة، وسرقوا ما وجدوه نافعاً في غرفة المدير والمختبر والمرسم، ربما. في الايام الثلاثة التي التهمت محاولاتي الفاشلة تلك كانت عيني تتفلت من محجرها وتدخل باب السجن الكبير، الذي تحجب نصفه شجرة السدر العملاقة، حيث يربط الشرطة حصانهم، وتظل تبحث في غرفات السجن الكثيرة عن أخي سالم، الذي تعرفه أمّي من البطانية التي جلبتها له في اليوم الاول من سجنه.
هناك صوتٌ طخماخ خشبي يأتيني كلما صرتُ قريباً من مقهى(مظلوم) القريب من سوق القصابين، بالبصرة القديمة أيضاً، هو صوتٌ مازلتُ أحمله بأذني منذ ستين عاماً ربما، ظل يتسلل لي من جوف محل عبود صانع الدوندرمة- (اللوقنطة) هكذا،كان يسميه أبي- كنتُ أراهُ خارجاً بالصديرية البيضاء، وبالبقع الداكنة على جانبيها، كلما احتاج الى الهواء. أبي هو من كان يأخذنا انا وشقيقي اليها، يوم كانت الدوندرمة تصنع من حليب الجواميس، لا من الحليب البودر، الذي لم يستورده أحدٌ بعد.
لم يبق من مبنى السجن العثماني إلا أصوات الباعة في ما تبعثر بمكانه من المحال المرتجلة، وزحف سوق القصابين على مقهى مظلوم ولوقنطة عبود، ولم أعد اسمع صوت الطخماخ الخشبي، لكنَّ مطعم كباب المركزي مازال كما هو، بالركن الذي اختاره ابي، قرب الزجاجة العريضة، حيث يمر المتعجلون. أقعد الفالجُ ابي عشر سنوات، ومات بعدها بسرطان الرئة، واستشهد شقيقي عبد الواحد في الحرب مع إيران، ومات اخي سالم عن ثلاثة وثمانين سنة، ولم تعد رفقتي لاحمد وعاصم الى المطعم والجلوس قرب الزجاجة العريضة فضيلةً. لكنني، ومن (مدن كالفينو اللامرئية) اتذكر وجه الجندي الشاب، الذاهب الى المعركة الاخيرة، والحقيبة بعروتها المهملة، ثم أتاملُ الحزن الشفيف بعينيَّ المرأة الواقفة في وداعه، عند الباب منذ عشرات السنين!!! أهو السكون الذي يتعهد الارتباك؟