حيدر المحسن
من القائل "نحن نعيش مع الأموات أكثر ممّا نعيش مع الأحياء"؟
عبد المحسن مهدي حسن مصطفى المُلّيَّه، هذا ما مطبوع في السجل، لكن اسم الشهرة بين الأقارب والناس هو: "محسن مُلّيَّه".
ليس ثمة شيء قديم جداً تحت الشّمس، حكمة معروفة، لكن الصورة الأولى التي أحفظها عن أبي قديمة جداً، ومع ذلك فهي واضحة، كأن ما كان يجري فيها يحدث الآن: رجل يرتدي بدلة أنيقة وربطةَ عنق وحذاءً أبيضَ، ويعتلي ظهرَ فيل.
في إحدى القصص التي قرأتها في الطّفولة، يظهر فيلٌ هارباً من قفصه، وكان يركض في شوارع المدينة ويرعب الجميع، يفرّون من أمامه لكن الحيوان الهائج يدوس على رجل فقير كسيح ويقتله في الحال، ليعمّ الذّعر بين النّاس الذين هم مرعوبون أصلا من الفقر والحاجة والمرض، ولا يملك السّلاح غير رجل أنكليزيّ تتجه الأنظار إليه: أنت هو المخلّصْ! يقضي الرّجل على الفيل بإطلاق الرّصاص عليه من بندقيّته، ويشبع أهل القرية الجائعين من لحم الفيل لزمن طال أسابيعَ، ويعمّ في البلدة السلام.
تمّ التقاط صورة أبي في حديقة حيوانات في ستينات القرن الماضي، وعليها التّعليق: طهران. باغ وحش. لكن تحديقَ أبي في الكاميرا، وجلستَه الهادئة على ظهر الحيوان ذي العينين المخذولتين والكسيرتين، بالإضافة إلى خيال الطفولة بالطبع، كلّ هذا جعل من أبي هو المخلّص!
الصورة الثانية:
كنّا نسكن في مدينة العمارة، وكان خالي يعمل محاسبا في مصرف. وذات يوم مرّر عليه أحد المزوّرين صكاً بمبلغ كبير يعني تعويضه أن العائلة سوف تكون على شفير الإفلاس، أو أن يُقاد خالي إلى السّجن، بالإضافة إلى الفضيحة بين الناس. الموقف أكثر من صعب... سافر محسن ملّيّه إلى بغداد في اليوم نفسه، وعاد بالمزوّر اللّصّ في اليوم التالي، وكتفه يكبّل كتفَ اللّصّ، ومعه المال. الشّجاعة الحقيقية هي التي تصاحبها الحكمة والسّداد، ولو لم يكن أبي حكيماً في ذلك اليوم الأسود لما مرّ علينا يومٌ أبيضُ فيما بعدُ.
الصورة الثالثة:
كنا نسير أنا وأبي في شارع الرشيد، وكنت تخرجت في تلك السنة طبيباً، ولا أتذكر الجهة التي كنا نقصدها. فجأة، توقف أبي، وأمسكني من ذراعي. قال لي:
"خُذْ!"
أعطاني صورته، ثم هتف بي من بين استغراب المارّة في الشّارع:
"احفظها جيّداً بين أوراقك".
لم أحتفظ بالصورة الأولى، ولا الثانية، أو الثالثة... كلها ضاعت بين الحلّ والتّرحال، وبين همّ المعيشة والقراءة والكتابة. لكني حفظت في عقلي وروحي وقلبي رمز الاسم الذي كان وما زال يشبهُ البَغْتَةَ، كما أن له وقعَ هزيمِ الرعد على سامعيه، ويرتجف منه الصّخرُ والشّجر والطّير في السّماء. عليّ أن أمدح القدر الذي وهبني اسمي: حيدر المحسن، فهو أمر أكثر مما يحلم به المرء، وبالنسبة إليّ كان ذلك أمرا محتوما كليّا، ومقدّرا في السماء.
إن التّغلّب على الصّعاب هو التّحدّي الأكبر الذي يواجهنا. في بعض السنين تبدّى لي العالم مثل قاعة مرايا، حيث تتداخل صور الأشياء مع بعضها بعضا، وبالتّالي لا شيء يبدو على حقيقته، وعندما يزوغ البصر تختلّ البصيرة حتما، ولمّا كاد الحالُ أن يكون سجيّةً لي زارني أبي في المنام في تلك الليلة. لم يقلْ ولا كلمة، نظر إليّ بعينين عميقتين غاضبتين، وفجأة رفع سّوطه، وظلّ يجلدني...
عندما بلغتُ الخمسين صرتُ نسخة طبقَ الأصل عن صور أبي الثلاثة التي أحفظها في ذاكرتي، ولا أدري كيف بلغني هذا الشّبه، وربما كان سوط أبي ذو المقبض المضفور هو الذي حفر على بدني اسمي الجديد.
لا يوجد في أمور الفكر أكثر فجاجة مما يدعونه في علم النّفس (قتلَ الأب). ما الفائدة من وراء هذا الجنون، طالما كان الآباء يعيشون معنا وهم يرقدون تحت التراب وعظامهم هباءٌ؟! محظوظٌ من يجلدهُ أبوه بالسّوط في الواقع أو في المنام لأنه رأى العالمَ قاعةَ مرايا. الجلدُ بالسّوط في الكِبر كالنّقش على الصّخر الجلمود...