لا تستطيع البشرية العيش من دون ايمان ما، ديانة أو مثل عليا. ولعصور طويلة من عمر البشر كانت كل جماعة تساوي بين معتقداتها وبين الحق. تعتبر ديانتها هي الحق وما عداها الباطل. وكم بدا مونتسكيو صادما عندما قال أن الديانة المسيحية ملائمة لإسبانيا، بينما الديانة الأزتيكية قد تكون الأفضل لشعب الأزتيك.
استفز ذلك الكنيسة بمقدار ما استفز الماديين الملاحدة. فهؤلاء يرون في كل دين وعيا زائفا. وتلك تعتبر نفسها ديانة الخلاص الوحيدة. لكن رؤية مونتسكيو اكتسبت زخما عالميا، حتى أصبحت طريقة التفكير القديمة "بربرية" أو همجية من وجهة نظر العصر الحديث. وصار الإعتراف بـ "الآخر" مقياسا للإنسانية والتحضر.
وجاءت "الرومانتيكية" لتكرِّسس قيمة مضافة لكل "آخر" أو أقلية أو مختلف أو غريب. ولم يعد الحق يكمن في ماهية الفكرة أو العقيدة، وانما في النزاهة تجاهها، والإخلاص لها. وكان رجال هذه الحركة "عظيمي التقدير لكل الاختلافات الدقيقة العديدة التي تتميز بها حياة الأفراد والشعوب" على حد تعبير ارنست كاسيرر.
وعلى الرغم من شيوع هذه النظرة الى حد كبير في العالم، ودخولها القوانين الدولية من أبواب حرية الفكر والعقيدة، كأسمى حقوق الانسان، ولكنها لم تصبح قيمة داجنة بعد في هذا الجزء من العالم. ويشمل ذلك اسرائيل التي اعتاد الغرب وسمها بالديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط. وهي قد تكون كذلك بالنسبة الى سكانها من اليهود، لكنها بالقطع ليست كذلك تجاه مواطنيها العرب في مناطق 1984 أو في الضفة الغربية وغزة.
هذه الدولة ولدت من نكران "الآخر"، ليس فكرا وعقائد وحسب، بل حتى وجوده من الأساس.
فقد زعمت أن فلسطين "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". وعلى الرغم من اضطرارها في المراحل اللاحقة الى الإعتراف بالشعب الفلسطيني، ولكن كل سياساتها تشير الى أنها لم تستطع الى اليوم التسليم به وهضمه.
آخر الشواهد المؤلمة على ذلك الحرب الأخيرة على غزة. فاستسهال القتل والتدمير في القطاع ينم عن تغلغل العنصرية، التي هي قمة رفض الآخر، في اسرائيل. ويجمع المحللون على أن أهم اسباب شن الحرب هو حشد الجمهور وراء تحالف نتنياهو- باراك للفوز بالانتخابات التي ستجري الشهر المقبل. ما يعني ان للحرب على غزة شعبية في صفوف الشعب الاسرائيلي. هذه الشعبية للسلوك الاجرامي تجاه الآخر لا يمكن تفسيرها بمعزل عن النظرة العنصرية.
واذا صح ان البقاء السياسي هو الهدف الرئيسي لهذه الحرب، فان اسرائيل بذلك تدلل على انتسابها الى السلوك السياسي السائد في المنطقة، الذي يشرِّع كل شيء من أجل البقاء في السلطة. وهذه الشريعة "ديانة" شائعة في الشرق الأوسط. وهي ديانة مازال بينها وبين قبول "الآخر" خرط القتاد. فهي مجمع الإيمان بالسلطة والعنصرية معا. واسرائيل تجسدها بمقدار ما تجسدها كذلك"الطائفية السياسية". فهذه الأخرى هي أيضا التطلع الى الحكم والسلطة مع غمط حقوق الآخر بهذه الدرجة أو تلك. وكان هذا النوع من الحكم الطائفي وراء انفصال الجنوب المسيحي الوثني عن شمال السودان المسلم.
إن نتائج هذا النوع من السياسة مأساوية دوما. فليس للغرام بالسلطة، ولا للعنصرية، دين أو أخلاق. وكلاهما لا ينتج غير العنف والفساد.
اسرائيل والطائفية
[post-views]
نشر في: 20 نوفمبر, 2012: 08:00 م