TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > صراع الفلسفة والعلم

صراع الفلسفة والعلم

نشر في: 6 مايو, 2023: 09:25 م

حازم رعد

لا غنى للانسان عن العلم في مختلف مجالات الحياة اليومية والعامة على الاطلاق، فالعلم قد وفر للانسان مختلف ادوات ورسائل الراحة والرفاه من تقنيات وبرامجيات تستعمل في اصعدة الحياة المختلف الخدمية منها والتربوية والتعليمية والصحية فمخرجات ومخترعات العلم دخلت في المنزل والعمل والمؤسسة وتستخدم في الحروب والسلم والرفاه وتوفير المتعة وتجنب التعب

وغير ذلك بل ان العلم سهل حياة الانسان الى درجة يصعب تحديد نسبتها حتى جعل هذا الكون الفسيح وكأنه قرية صغيرة كما يقال، كذلك الانسان لا يمكنه الاستغناء عن الفلسفة فهي تقدم له رؤية متكاملة عن الكون والحياة وتعلمه طرائق العيش وتقوده الى التصرف الصائب وتقدم له بدائل عن الوقوع في الاخطاء والاغاليط وترسم له نماذج عديدة سياسية واجتماعية لتنظم حياته وتضبط سلوك الانسان الجامع وتسهم في توفير العدد النظرية والمعرفية للسلم الاهلي والامن المجتمعي ناهيك عن كون الفلسفة تجعل الانسان يميز بين ماهو حقيقي وبين ماهو زائف وخرافي في اي امر يعترض الانسان او يباشره.

لكن المفارقة ان العلاقة بين الفلسفة والعلم غدت متوترة ومربكة الى حد كبير ويعود تاريخ هذا التوتر في العلاقة الى يوم اعلنت العلوم انفصالها عن الفلسفة. فبعد ان كانت الفلسفة اماً للعلوم وسعت في توليدها ونموها راحت العلوم تشهد على نفسها بالعقوق والانفصال شيئاً فشيئاً لتستقل بموضوعاتها وطبيعة بحثها وادواتها التي تستعملها في المدارسة والبحث، وكان ذلك الانفصال من النتائج التي ترتبت على عصر النهضة فمن المعلوم ان الفلسفة كانت لا تقتصر على النظر العقلي في العالم فالفيلسوف كان طبيباً وفلكياً وكيميائيا والى غير ذلك ولكن مع النهضة الاوربية بدت العلوم بالاخذ بالابتعاد عن الام "الفلسفة ام العلوم" ويختص كل علماً في مجاله وحقله التخصصي الذي يفترق به عن غيره.

لم يقتصر الامر على الانفصال فحسب بل اخذ منعطف اخر وهو نشوب صراع بين المجالين الفلسفي والعلمي اذ كل منهما راح يحتكر الاحقية لمجال دراساته ومنهجيته ويدعوا الى وحدة الحقيقة الراسخه في طريقته، وطفحت على ارض الواقع صيحات كبيرة من كلا الاتجاهين ضد الاخر.

كانت بواكير هذا الصراع ونقطة صدعه مع القول بثنائية الحس والعقل فكان ان حصل تمايز بين اتجاهين يركز الاول على حصر مصدرية المعرفة بالعقل بينما الاخر يجد ان الحس هو المصدر الوحيد للمعرفة وما عداه عرضه للوقوع في الاخطاء واللايقين. ديكارت وجون لوك الفيلسوفان الاكثر اهمية في هذا الصراع اذ ينتهي اليهما التنظير لكلا الاتجاهين العقلي والحسي التجريبي. ديكارت الذي قال بوجود افكار فطرية عقلية تهيء الارضية لكل عملية معرفة واججها لوك بالنفي ووجد ان الانسان يولد وعقله صفحة بيضاء وخلو من كل علم ومن خلال مباشرته للوقائع والاحداث وعن طريق الحس يبدأ عقله بالتقاط الصور والتشكل، وجد ديكارت بالشك المنهجي "الشك الذي هو من الفكر" طريقاً للوصول الى حقيقة يقينية، بينما رأي جون لوك ومن تبعه بعد ذلك في الحس المصدر الاساسي للمعرفة اليقينية.

ان بواكير هذه الثنائية "الفلسفة - العلم" كفكرة منتشرة لم تكن وليدة عصر النهضة فهي موجودة في ثنائية افلاطون في العالم المحسوس والمعقول فهذه القسمة هي التي مهدت الطريق للانفصال على اقل التقديرات للكلام عنها بمستويين اولهما حسي والاخر عقلاني ما مهد الطريق "على المستوى المعرفي" لاذكاء صراع الاتجاهين الحسي كمصدر وحيد للمعرفة، والعقل كمصدر مركزي للمعرفة والعلم.

وما زاد من سعة الصراع بينهما الثورة العلمية مع العالم البولوني كوبرنيكوس [ الذي صحح مفاهيم علم الفلك والنظام الشمسي بلغ النقاش اشده في مسألة خلق العالم ومحورية الارض مما خلق هو عميقة بين المفكرين التقليديين] كما يقول جوزيف معلوف، فكانت بواكير نطلاق عصر العلم مدعاة غرو اتباع هذا الاتجاه فاعلن بتطرف جمع منهم على احتكار اليقين في الاتجاه العلمي وطرح ما عداه عن سكة الصحة والحقيقة.

وهكذا ضلت العلاقة متوترة بينهما في كثير من المستويات فعلى الرغم مما تمده الفلسفة للعلم من تهيئة الارضيات الازمة للعلوم من تحقيق وجود موضوعات ومواد بحثها "فتحقيق وجود الموضوعات التي هي اغراض البحث" من عمل الفلسفة، وكذلك فان تعميم القوانين التي يتوصل اليها العلم بعد اجراء التجربة والتنقيبات اللازمة من شأن الفلسفة، كما ان توضيح مصطلحات العلوم ومعاني المفاهيم هو وظيفة للفلسفة كما يقر بذلك شيلك مؤسسة دائرة فيينا، الا ان العلاقة بينهما ضلت متوترة اذ الكثير من مجالات العلوم ترفض فكرة انها تفيد من الفلسفة بل تعتبر مجالها هو المعني بانتاج الحقيقة لا فير اذ الاعتماد على التجربة والمعامل المخبرية والملاحظات الموضوعية مصدر اليقين الوحيد وان تأملات العقل واشتغالاته الاخرى لا يمكنها ان تنتج يقيناً مستقلاً عن مناهج وادوات ومختبرات العلم، وبذلك ضلت العلاقة متوترة بين الاتجاهين.

جوهر صراع الفلسفة مع العلم هو ان الاخير يجد ان لا معرفة حقة في مجال سواه فمخرجات الملاحظات الموضوعية والتجارب المخبرية ومعطيات الحس المباشرة هي المصدر الاساسي لكل معرفة ودونها لا يعدوا كونه شكوك واوهام حتى تلك التي تجيء نتيجة التأمل العقلي واشتغالات الفاهمة الانسانية، سيما ونحن نعرف ان الفلسفة تحقق للعلم الارضية المناسبة "الوجودية" للاشياء والقضايا وتحقق في معاني المفردات والمفاهيم لتوضحها للعلم قبل تناولها بالمشارط المخبرية وكذلك ان الفلسفة تركب وتعمم المفاهيم بعد انتهاء العلم من تدشينها لتصوغ منها قوانين عامة فحاجة العام الى الفلسفة حاجة تأسيسية ومعرفية ولا يمكن للعلم شق طريقه بدون العقل "مصدر المعرفة الفلسفية" فمشرط وادوات العلوم لا تعمل الا والعقل عليها رقيب ومتابع فهو الذي ينظم عملية التفكير والتشخيص ويحكم منظومة القواعد والمعلومات التي يستعملها العلم في مجالاته المختلفة.

إن إمعان التدقيق في مدى تدخل العقل بمديات العلوم والتخصصات نلاحظ ان مجمل ما يقوم به التجريبي في المختبر وعند بلورة المشاهدات والاحساسات عند التقاطها من قبل العقل، انما يكون من تنظيم العقل لهم فان المنهجية التي ترسم كخارطة تنظم الاجراء والنشاط العقل ذاك، وكذلك المفاهيم التي تجترح في التجربة وفي الاتجاه العلمي انما هي نتيجة تدخل العقل بواسطة القبليات الفطرية بحسب ديكارت، او بواسطة القوالب العقلية المتعالية بحسب كانط، وعليه فكما ان الذهن ينفعل هو يفعل ويتدخل ويضيف الى التجربة والى الحس ولا تقتصر فاعليته على التلقي، فليس هو مجرد وعاء، بل دوره تنظيم المعرفة وتوجيهها.

ناهيك عن المعرفة التاملية التي هي محض عقلية تزيد من حظوظ الاتجاة العقلاني لممارسة الواقع وابداع الافكار ومراجعتها وثرائها.

مع ذلك تحاول بعض الاتجاهات التخصصية العلمية دون جدوى ابعاد الفلسفة عنها والتفرد بصدارة المشهد المعرفي والعلمي ذلك ان العلوم دون الفلسفة تبقى فاقدة للعقل الذي يوجه عملها وينظم الاجراءات داخل المختبرات العلمية والفلسفة تدشن مناهج العلم "الطرق التي تنتهجها" في البحث والاستقصاء والاحصاء والتنظيم.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق منارات

الأكثر قراءة

شعراء الأُسر الدينية.. انتصروا للمرأة

العمودالثامن: فاصل ونواصل

كيف يمكننا الاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟

العمودالثامن: حين يقول لنا نور زهير "خلوها بيناتنه"!!

شراكة الاقتصاد الكلي والوحدة الوطنية

العمودالثامن: لماذا يكرهون السعادة؟

 علي حسين الحزن والكآبة والتعوّد على طقوسهما، موضوع كتاب صدر قبل سنوات بعنوان "ضدّ السعادة"، حشد فيه مؤلفه إيريك جي. ويلسون جميع الشواهد التي ينبغي أن تردعنا عن الإحساس بأي معنى للتفاؤل، فالمؤلف...
علي حسين

كيف يمكننا الاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟

محمد الربيعي (الحلقة 3)التجربة الكوريةتجربة كوريا الجنوبية في التعليم تعتبر واحدة من أنجح التجارب العالمية فقد استطاعت أن تحقق قفزة نوعية في مسارها التنموي، فحوّلت نفسها من دولة فقيرة إلى قوة اقتصادية عظمى في...
د. محمد الربيعي

مركزية الوهم العربي: بين الشعور بالتفوق ونظريات المؤامرة

قحطان الفرج الله مفهوم "المركزية" الذي يقوم على نزعة الشعور الجارف بتفوق الأنا (سواء كانت غربية أو إسلامية) وصفاء هويتها ونقاء أصلها. بحسب الدكتور عبد الله ابراهيم الناقد والمفكر العراقي، الذي قدم تحليلًا معمقًا...
قحطان الفرج الله

تفاسير فظيعة في تفخيذ الرضيعة

حسين سميسم وجد الفقهاء أن موقفهم ضعيف في تشريع سن الزواج، نظرا لضعف الروايات التي اعتمدوا عليها، اضافة الى خلو القرآن من نص صريح يوضح ذلك، فذهبوا إلى التفسير بحثا عن ضالتهم، ووجدوا في...
حسين سميسم
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram