اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناديل: في مقهى الذكاء الاصطناعي

قناديل: في مقهى الذكاء الاصطناعي

نشر في: 6 مايو, 2023: 09:34 م

 لطفية الدليمي

مقالتي اليوم ستكون أقرب لإجابات عن أسئلة يمكن أن يتطارحها عقلان أو أكثر في مقهى ذي مواصفات ثقافية مرموقة كمقهى الوجودية الذي كتبت عنه سارة بيكويل في كتابها (في مقهى الوجودية) – مكان أثير تسترخي فيه وتطرح كلّ تساؤلاتك وأنت تتناول لذيذ الشراب من شاي أو قهوة أو عصائر لفواكه طازجة.

ماالدماغ؟ هو أكوامٌ من الذرّات المشكّلة بترتيب معقّد. هو مجموعة ذرات كاربون وفسفور،،، ،،، إلخ. لاأظنّ أحداً يخالف هذا الرأي. وماسيّارة الرولس رويس؟ لاتظنّوا أنني إخترتُ هذه السيارة بقصدية مسبقة. إخترتها لأنها واحدةٌ من أغلى السيارات في العالم. هذه السيارة هي مجموعة ذرات كذلك. هل ثمة فرق بين ذرات الكاربون في هذه السيارة ونظيراتها من ذرات الكاربون في الدماغ البشري؟ كلا. إذن، لماذا لاتملك سيارة الرولس رويس وعياً Consciousness كذلك الذي يقترن بكلّ دماغ بشري حي قائم في جسد بشري وليس منفصلاً عنه؟

هذا واحد بين أسئلة كثيرة تصف المعضلات الفلسفية للمفاهيم الأولية، ومنها أصل الوعي. سيجيب علماء التعقيد بأنّ الوعي خاصية إنبثاقية Emergent تنشأ عن الترتيب شديد التعقيد للذرات المكوّنة للدماغ. الترتيب هنا يقصَدُ منه الطريقة التي ترتبط بها الذرات مع بعضها وهي ماتعرفُ بالشبكات العصبية الدماغية. الانبثاق Emergence والتعقيد Complexity خاصيتان مرتبطتان عضوياً في النظم المعقّدة، وهي جوهر كلّ التطوّر العلمي والتقني المعاصر. ربما من المناسب الاشارة إلى معهد سانتا في Santa Fe Institute في الولايات المتحدة، وهو أحد أكبر المراكز البحثية في النظم المعقدة، وقد سبق لي الاشارة إليه في موضوع مترجم سابق لي تناولتُ فيه الكاتب والروائي كورماك مككارثي.

خاصية الانبثاق إذن هي جوهر معضلة الذكاء الاصطناعي. من أين ينشأ الذكاء الاصطناعي؟ ينشأ في آلات (روبوتات هي في النهاية حواسيب). ما عساها تكون هذه الحواسيب؟ هي مجموعة ذرات في نهاية المطاف. هنا السؤال الجوهري: كيف نضمنُ أن لايمرّ وقتٌ يحصل فيه لهذه الآلات طفرة إنبثاقية نوعية تجعلها تمتلك وعياً شبيهاً بذلك الذي يحوزه البشر؟ لاشيء يعوق ذلك من الناحية المبدئية لإمكانية التحقق.

هنا سنكون في مفترق طريق ابستمولوجي يتعلّق بأصول المعرفة البشرية. سيتخذ البعض مقاربة دينية ويقول أنّ الإله الذي كرّم الانسان بأن جعله في أحسن تقويم لايمكن أن يسمح ببلوغ البشر حدّ القدرة على تخليق دماغ إصطناعي واعٍ. هؤلاء لهم كلّ الحق في إختيار مايشاؤون؛ لكنّ إقحام الإله في شؤون دنيوية لاأظنّه سبيلاً مناسباً. قوانين السماء ليست قوانين الارض. الافضل أن يبقى الإله في عليائه، تماماً مثل الدين. البحث العلمي شيء، وتطبيقاته شيء آخر. لاضير في معرفة التفاصيل؛ بل الواجب يقتضي معرفة هذه التفاصيل لأنّ تطبيقاتها اللاحقة غير المؤذية ستترتب على معرفة دقيقة بالتفاصيل الاولى.

هنا سيحضر السؤال: إنّ من الصعب بناء منظومة مادية (سمّها عقلاً حاسوبياً) تشابه البنية الدماغية. هل سمعتً بالشبكات العصبية الاصطناعية Artificial Neural Networks؟ هذه ليست خيالاً علمياً. إنها واقعٌ حقيقي حتى أنّك تستطيعُ دراسة مقرر دراسي أولي فيها عبر منصّة كورسيرا Coursera (مثلاً) فضلاً عن عن كتب كثيرة تتناول هذا المبحث المهم. وبمناسبة ذكر كورسيرا؛ فإنّ هذا الكورس الدراسي المجاني يقدّمه رجل عالمٌ ذائع الصيت في ميدانه إسمه جيفري هنتون Geoffrey Hinton. ألايذكّركم هذا الاسم بحدثٍ قريب؟

جيفري هنتون كان حتى أيام قليلة سابقة العقل الأكبر في شركة غوغل العملاقة، وهو أحد الآباء الشرعيين الذين دقّوا الركائز الاولى لعصر الذكاء الاصطناعي. كان هنتون في الاصل أحد علماء علم النفس الادراكي، ثم حصل على شهادة الدكتوراه في الذكاء الاصطناعي عام 1978. هنتون هذا هو من طوّر مفهوم الشبكات العصبية الاصطناعية. قدّم هنتون إستقالته من شركة غوغل حتى يتاح له الحديث بحرية ومن غير ضواغط مهنية عن هواجسه بشأن تطوير الذكاء الاصطناعي.

هكذا يجب أن نضع الامور في سياقها من غير تحيزات دينية أو آيديولوجية مسبقة. نحن لدينا الآن القدرة على بناء آلات مادية (حواسيب) تستطيع التعلّم كما يفعل الدماغ البشري حتى لو كانت قدراتها الآن تبدو بدائية بالمقارنة مع دماغ طفل رضيع. الزمن كفيلٌ بتطوير القدرة التقنية. هذا ماتعلّمناه من خبرات سابقة.

من أين تأتي إذن المخاوف بشأن الذكاء الاصطناعي؟ تأتي من مصدريْن: الأول هو سرعة معالجة البيانات، والثاني هو توفّر البيانات الكبيرة Big Data. هذان المصدران سيمنحان الذكاء الاصطناعي إمكانية التفوق على الذكاء البشري الطبيعي (البيولوجي). لاتتصوّر أنّ الامر ببساطة يمكن أن ينحلّ إلى قضية من نوع: (أفصل المصدر المزوّد للطاقة عن الحاسوب أو الروبوت وينتهي الامر). عندما يتكلّم رجل صانع أفكار خلاقة وتقنية متقدمة مثل هنتون عن مخاطر الذكاء الاصطناعي فيجب أن نستمع إليه مثلما إستمع إليه كل العالم عندما صارت إستقالته من غوغل خبراً رئيسياً في الصحافة العالمية. مثل هؤلاء الخبراء يعرفون بالتأكيد تفاصيل خطيرة نحن لانعرفها في الوقت الحاضر.

نميل كثيراً إلى تعظيم المناسيب الدرامية في حياتنا وننسى أصول الاشياء. نقول مثلاً: كيف يمكن أن يمنحني روبوتٌ ما تجربة حميمة مثلما يفعل جسد بشري؟ نحنُ نفترض وجود كينونة متفردة في الجسد البيولوجي لايوجد لها نظير في الآلة. لكن في التحليل المفاهيمي الفلسفي: ماالحب؟ ماالارادة الحرّة؟ ماالرغبة في هذا أو ذاك؟ ماالنشوة؟ ماالفرح؟ مالحزن؟ هي طرائق اشتباك للمعلومات في الآلة (أو المعطيات الحسية في الكائن الحي) في منظومة عصبية إصطناعية أو طبيعية. لماذا نفترض أنّ الاولى تختلف عن الثانية؟ الامر لايعدو نمطاً من خبرات مسبقة راسخة لانريد لها تبديلاً أو تعديلاً.

من يقرأ لي هذه الكلمات سيحسبني هائمة بعشق الذكاء الاصطناعي. أبداً. أنا لاأودّه؛ لكنّ انعدام الودّ لايعني حجب المعرفة أو التملّص منها أو التقاعس في طلبها. يمكن النظر إلى المخاطر من باب الامكانية: لو أننا في العراق، وبكلّ مايعتريه من مآس وجودية، جعلنا من تعلّم اللغات البرمجية الخاصة بالذكاء الاصطناعي نسقاً تعليمياً فردياً (لأننا غسلنا أيدينا من التعليم الرسمي الجامعي وماقبل الجامعي) فيمكن خلق قوة عراقية برمجية ناعمة تفتح للمستقبل أبواباً وسط هذه الظلمة الحالكة. التعلّم مجاني، وكلّ مايتطلبه هو الشغف والمتعة بالعمل والاحساس بقيمة الانجاز.

الحديث عن ذكاء إصطناعي يتلبّسُ هيأة فرانكشتاين ناعم، غير مرئي، قادم ليبتلع الارض وساكنيها في لحظة غفلة هو حديث ديستوبي غير مجدٍ. الافضل هو أن نبحث ونفهم ونتصرّف على أساس هذه الفهم. قراءة أدبيات الذكاء الاصطناعي الرصينة هي إحدى وسائل هذا الفهم، وليس من بديل لها سوى الأوهام.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

 علي حسين في السِّيرة الممتعة التي كتبتها كاترين موريس عن فيلسوف القرن العشرين جان بول سارتر ، تخبرنا أن العلاقة الفلسفية والأدبية التي كانت تربط بين الشاب كامو وفيلسوف الوجودية استبقت العلاقة بين...
علي حسين

كلاكيت: الجندي الذي شغف بالتمثيل

 علاء المفرجي رشح لخمس جوائز أوسكار. وكان أحد كبار نجوم MGM (مترو غولدوين ماير). كان لديه أيضا مهنة عسكرية وكان من مخضرمين الحرب العالمية الثانية. جيمس ستيوارت الذي يحتفل عشاق السينما بذكرى وفاته...
علاء المفرجي

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (2-2)الحكومة الجمهورية الأولىعشت أحداث الثورة في بغداد ثم عشت مضاعفاتها في النجف وأنا في الخامسة عشرة من عمري. وقد سحرتني هذه الحيوية السياسية التي عمّت المدينة وغطت على طابعها الديني العشائري.في متوسطة...
زهير الجزائري

ماذا وراء التعجيل بإعلان "خلو العراق من التلوث الإشعاعي"؟!

د. كاظم المقدادي (1)تصريحات مكررةشهدت السنوات الثلاث الأخيرة تصريحات عديدة مكررة لمسؤولين متنفذين قطاع البيئة عن " قرب إعلان خلو العراق من التلوث الإشعاعي". فقد صرح مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع التابع لوزارة...
د. كاظم المقدادي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram