TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > هل الإبداع مبعث دهشة للإنسان؟

هل الإبداع مبعث دهشة للإنسان؟

نشر في: 7 مايو, 2023: 09:54 م

عبد الكريم البليخ

يحاول الأديب، كما تحاول العلوم الإنسانية الأخرى، الكشف عن معنى الحياة، ومن التجربة الإنسانية تنطلق جميعاً لتؤدي غرضاً معيناً ذا قيمة وفائدة تصب أخيراً في النفع العام.

وحينما يصف الأدب هذه التجربة بطريقة مباشرة حية متحركة، فإنّ العلوم الإنسانية تعبّر عن البنية الأساسية لمفهوم الحياة وتترصدها.

وترتبط تجربة المرء عن الحياة الإنسانية ومعاناته لها بالوعي. فالتجربة خلاصة لتشكيلة متنوعة عريضة من الانفعالات والمواقف الإنسانية، والنوايا التي أدركها في نفسه وفي الآخرين، بل إنَّ فهم المرء للإنسان وتجربته له يتضمنان إدراكاً عميقاً لوحدة الشخصية، فلا معنى لتنوع مظاهر الحياة الإنسانية إلّا إذا تمّ الكشف عن هذا التنوّع في نطاق تصميم متكامل خاص بحياة الإنسان، وعندئذ يُصبح لكل مظاهر السلوك الإنساني معنى.

والروائي العظيم، أو الشاعر الملهم، أو الكاتب المسرحي صاحب العبقرية هو من يكشف تدريجياً عن بنية الشخصية الإنسانية عندما يقود قراءة عبر تشكيلة من المواقف العصبية الحرجة التي تستجيب لها شخصيته، وتتجاوب معها، معيدة النظر باستمرار في توجيه حياتها.

ولا توجد روعة القصة أو المسرحية عادة في هذه المواقف، بقدر ما توجد في قدرتها على الكشف عن حياة الشخصيات الداخلية.

عندما يجلس المتلقي بهدوء على مقعده بالبيت، أو يختفي في ظلام المسرح، يستطيع أن يعيش عدّة حيوات ويشارك في تطورها، ولا تكون هذه المشاركة خارجية، كما يفعل الملاحظ المحايد، ولكن بواسطة الدخول في صميم الشخصية الإنسانية لفهم الدوافع فهماً أعمق. وبذلك يندمج في حياة منفردة، بدل أن يسمع عن الحياة جملة بدون تفاصيل.

والأمر نفسه يقع بالنسبة للشخص الذي يلتجئ إليه للمشورة سواء أكان المستشار طبيباً نفسياً أو حكيماً، أو صاحب تجربة في الحياة، فالمستشار الجيد لا يهتم أساساً بمجموعة الحوادث اليومية التي يصفها إليه زبونه أو المريض، وإنما الذي يهمّه هو الطريقة التي تربط طالب المشورة بهذه الحوادث، وكيفية معايشتها وتجاربه معها.

هكذا يُحاول الطبيب قراءة شخصية مريضه، وفهم التركيب الفريد للدوافع التي توجه حياته وتتحكم فيها، ويندهش علماء النفس والروائيون للدوافع الخفية الغريبة التي تملي الحوادث والمواقف، وإذا كان واجب الطبيب تبليغ استنتاجاته إلى المريض فإن واجب الكاتب المبدع أن يكون ذا قدرة على اشراك عدد كبير من القرّاء في فهمه واستنتاجاته.

ولا تكون المسرحية أو الرواية ناجحة إلّا إذا أسَرت الجمهور بوحدة شخصياتها. فالكاتب المبدع لشخصية خيالية يتأمل، ويوصل إلى القارئ تطور شخصياته وتدرّجها نحو الاكتمال والنضج. إنّه يستطيع أن يظهر كيف أن اختباراً أساسياً تقوم به إحدى شخصياته يسوق ذلك إلى اختيارات أخرى ممكنة، وكيف أن قراراً جديداً بمثابة نوع من التطور، ويفتح مجالات أخرى لاختيارات عديدة وممكنة.

ففي مجال القرارات، توجد دائماً وسيلة لاختيار إحدى الامكانيات، ومهما تكن الامكانية التي تم اختيارها، فمن الممكن دائماً اختيار غيرها، ويساعد هذا الموقف على خلق انطباع بالحتمية، وبصرامة المصير في حياة الشخصيات الروائية الخيالية العظيمة. ثم إنَّ الروائي الممتاز، أو المسرحي المتميز، يجعل من الأزمة المباشرة التي تواجه البطل أزمة واقعية عندها يضطر إلى اتخاذ قرار داخل إطار الموقف الحياتي الذي نعيشه.

أما الطبيب النفسي فلا يستطيع، مثل الكاتب، أن يتأمل الشخصيات التي تلجأ إليه، ولا أن ينظر إليها من جانبها المكتمل، الطبيب النفسي يستطيع أن يلاحظ مريضه وهو في أزّمة اتخاذ قرار، هذا القرار الذي يحتمل أن يحدد حياته في المستقبل تحديداً له دلالة، ولكنه لا يستطيع أن يحدّد مستقبل شخصية المريض.

الروائي إذن يخلق حياة خيالية، ويعرف ما ستكون عليه هذه الحياة، طبقاً لوحيه الخاص، وبالتالي فإنّه يعرفُ أي طريق ستتبعه الشخصية الرئيسية في الموقف الذي يطلقه هو، أما الطبيب فإنه يواجه شخصاً واقعياً يقف على حدود قرار حاسم وعصيب، ولكنه ليس هو خالق هذه الشخصية، ولا يستطيع أن يتخذ قراراً نيابة عنها.. مثلما يفعل مبدع الشخصية الخيالية. وكل ما يستطيع فعله هو مساعدة مريضه على توضيح مجال القرارات المفتوحة أمامه في الحياة، ولكنه لا يستطيع أن يوجهه نحو قرار وهو آمن من الخطأ.

ومع ذلك، فكل من الكاتب والطبيب يخدم الخلق الذاتي للإنسان. فهذا الأخير يفعل ذلك بإبرازه للاختيارات الممكنة أمام زبونه، وبتوعيته بالقوى الخلقية التي تمنعه من اختيار امكانياته الصادقة.

في المقابل يقدم الروائي أو المسرحي، خدمة مماثلة للجنس البشري بطريقة مختلفة، إنّه يجعل الإنسان واعياً بالقرارات التي يمكن أن يصادفها في حياته عندما يواجهه بعمل مسرحي للحظات الاختيار، بأصوات خيالية.

إنَّ الكاتب، لا شك أنّه يُبالغ في وصف العواقب التي نجمت عن الاختيار الذي قامت به الشخصية الروائية، ويواجهنا مرة تلو المرة، بالتأثير المحسوس الواقعي الناجم عن الاختيار على حياة الشخصية الروائية وحياة الآخرين.

ويكشف الأدب، من هذه الناحية، عن كثير من التيارات والنزعات الخفية التي تمتزج بمغامرة الحياة الإنسانية.

ويبدو أن هناك أرضية مشتركة للمعاناة، تلتقي عليها العلوم الإنسانية مع الأدب. ولكل منها جذور عميقة في هذه الأرضية. وليس كل أدب، ولا كل عالم إنساني له جذور في تربة التجربة الإنسانية الخصبة، فبعض أنماط القصص والمسرحيات والأشعار، وبعض الدراسات الإنسانية، تبدو قريبة من منبع الخلق. والأدب الذي يقترب من أعماق التجربة الإنسانية هو الذي تحتضنه وتعتزّ به الإنسانية جيلاً بعد جيل كأدب عظيم.

فالأدب الأصيل هو التعبير عن أعمق ما يُعانيه الإنسان، ويتعرّف الإنسان على نفسه في أعمال العظماء الشعرية والروائية والدرامية، لأنها تحكي قصته وتكشف عن حقيقته المحجوبة عن الآخرين. وما الصراعات التي تمرّ بها الشخصيات الروائية الأصيلة إلّا صوراً متعددة الأبعاد للانتصارات والانهزامات التي يمكن أن تكوّن انتصارات وانهزامات أيّ إنسان إن غامر في لجج الحياة.

وستبقى الأعمال الإبداعية الأصيلة مبعث دهشة للإنسان مادام هناك رجال اختاروا ألا يهربوا من المعاناة وأن يعيشوا واقع حياة.

إنّ الخيال الأدبي مرآة مكبّرة يَرَى فيها الإنسان نفسه إذا كان يملك شجاعة النظر إلى نفسه، لأن ما يطلع عليه الإنسان في أعماق نفسه ليس دائماَ منفتحاً للنظر بل يثير الفزع والخوف أحياناً.

ونخلص إلى أن نقول أن مساهمة الإبداع الأدبي تكون كبيرة ولها دورها في نمو وبناء الشخصية البشرية، وتشترك العلوم الإنسانية مع الأدب في هذا الاكتشاف.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

وراء القصد.. ولا تيفو.. عن حمودي الحارثي

شعراء الأُسر الدينية.. انتصروا للمرأة

العمودالثامن: فاصل ونواصل

العمودالثامن: ذهب نور وجاء زيد

العمودالثامن: حين يقول لنا نور زهير "خلوها بيناتنه"!!

العمودالثامن: لماذا يكرهون السعادة؟

 علي حسين الحزن والكآبة والتعوّد على طقوسهما، موضوع كتاب صدر قبل سنوات بعنوان "ضدّ السعادة"، حشد فيه مؤلفه إيريك جي. ويلسون جميع الشواهد التي ينبغي أن تردعنا عن الإحساس بأي معنى للتفاؤل، فالمؤلف...
علي حسين

كيف يمكننا الاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟

محمد الربيعي (الحلقة 3)التجربة الكوريةتجربة كوريا الجنوبية في التعليم تعتبر واحدة من أنجح التجارب العالمية فقد استطاعت أن تحقق قفزة نوعية في مسارها التنموي، فحوّلت نفسها من دولة فقيرة إلى قوة اقتصادية عظمى في...
د. محمد الربيعي

مركزية الوهم العربي: بين الشعور بالتفوق ونظريات المؤامرة

قحطان الفرج الله مفهوم "المركزية" الذي يقوم على نزعة الشعور الجارف بتفوق الأنا (سواء كانت غربية أو إسلامية) وصفاء هويتها ونقاء أصلها. بحسب الدكتور عبد الله ابراهيم الناقد والمفكر العراقي، الذي قدم تحليلًا معمقًا...
قحطان الفرج الله

تفاسير فظيعة في تفخيذ الرضيعة

حسين سميسم وجد الفقهاء أن موقفهم ضعيف في تشريع سن الزواج، نظرا لضعف الروايات التي اعتمدوا عليها، اضافة الى خلو القرآن من نص صريح يوضح ذلك، فذهبوا إلى التفسير بحثا عن ضالتهم، ووجدوا في...
حسين سميسم
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram