اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > رحلة إلى العراق..

رحلة إلى العراق..

نشر في: 7 مايو, 2023: 09:56 م

أحمد الزبيدي

قَبْر جدّي على الحدود الروسية، وقبر والدي على حدود ديار بكر.. وأنا لا أعلم أين سأدفن! هذا الجواب التراجيدي هو للشيخ مراد كالو؛

حين سألته عن أحوال أبناء قومه (الأيزيديين) إن كانوا -الآن- في مأمن من عواقب السياسة والأيام.. كان هذا السؤال في مدينة الموصل يوم وصلنا: جمال العتّابي، و فلاح الخطاط، و علاء حسن، و سامر جمال. بدعوة من الصديق الشيخ مراد لتقديم التهاني لهم بمناسبة عيد الأيزيديين في الأربعاء الأولى من نيسان.. لا أريد التطرق إلى كرمه، فهو أمر مفروغ منه، ودعونا نبدأ بسرد الرحلة من مدينة (بعشيقة) من دون أن أعرف، أو أتذكر، إن كانت ناحية أو قضاء؛ ما شاهدته - فعلًا - أنها (مدينة) رغم إحاطتها من الجهات كلها بمزارع القمح المبتدئة السنابل، أي أنها محاطة بـ (القرويين) المزارعين، وهم أبناؤها أنفسهم وليسوا من خارجها؛ دخلنا المدينة قبل غروب الشمس بدقائق معدودة وإذا بمعالمها لا تنبئ عن هوية دينية محددة فعلى يمينك كنيسة بصليب لامع، وعلى يسارك معبد أزيدي شاهق، وهناك جامع! ديانات رسمية معترف بها من قبل السماء تتجاور مع ديانة (غير شرعية) حسب التوصيفات السماوية، الإسلامية على الأقل!. ولكن المدينة سمحت لأبنائها المختلفين - دينيًّا- أن يعبدوا الله حسب التوصيفات (الإنسانية)

وإذا كان لكل امرئ نصيب من اسمه، فإن للمدينة الحصة الأكبر من دالّها ومدلوله فـ(بعشيقة) تعني (العشق) الذي هو، حسب ما أبلغنا به لسان العرب، أعلى درجات الحب؛ وهل يوجد شاهد على علوّه من تجاور الأديان المتضادة وتآخيها؟ وهل يوجد دين يشبه دينًا أصلًا؟! إنها تكفّر بعضها مذ وجدت!.. لا أتذكر المكان الذي رقدت فيه مركبتنا، إذ كنت منشغلا بالنظر إلى جمال أهلها المبتسمين كلهم، وهم ينظرون إلى سياراتنا وأرقامها التي تدلّ على أننا ضيوف، وإذا برجل توحي ملامحه كما توحي سيمياء ملابسه أنه أحد الشيوخ الأيزيديين رحب بنا مع مجموعة من أقربائه ودخلنا غرفة الضيوف مع باقة من النسوة، هنّ بنات الشيخ مراد وزوجته الكريمة فجلسن معنا، بوجوه لا تفارقها الابتسامة، حتى تمدد شمع الخدين من كثرة الابتسامات المرحبة بنا؛ حينها همست بأذن جمال العتابي،: كيف يسمحون للنساء الجلوس مع (رجال غرباء!!) في المضيف وهم قرويون وريفيون؟!! لو كانوا ضيوفي في قريتي لما سمحت لنسائنا الجلوس معهم! قال العتابي: وأنا كذلك!.. فقد ذهبت أدراج الرياح كل ما ندّعيه عن الحداثة والمدنية والمساواة بين الرجل والمرأة! اختفى الآن ألتوسير، ولا كان، وسارتر، ونازك الملائكة.. هؤلاء نقرأ عنهم، نكتب عنهم، نتغزل بأطروحاتهم ندافع عن أفكارهم، نناهض من يكفرهم، نعم، لكن أن نحيا حياتهم (العائلية) لا! انذهلنا: العتابي وأنا، ولم يستطع الأوّل صبرًا، حتى توجه إلى الشيخ صاحب الدار ليشكره على حسن الاستقبال - غير المألوف- وراح يكشف للجالسين دهشتنا من المفارقة: مدينة ريفية بحياة مدنية! بل الأغرب جدا أن ضيوفهم (مسلمون) ينتمون إلى الدين الإسلامي الذي تخرجت فيه (الدولة الإسلامية في العراق والشآم) التي رفعت شعارا: خلافة على منهاج النبوة! تعجبت كيف لم يفكر أحد منهم أن الذين أسهموا في احتلالهم هم من أبناء جلدة ديننا ألم يقل الإسلام (أنما المؤمنون أخوة) وربما يعرف الكثير منهم أن التأريخ الإسلامي حافل بالكثير من (الغزوات) اللواتي جلبن للمجاهدين المسلمين نساء مسبيات وجواري وغنائم ورؤوسًا مقطّعة!. بل لا أظن أن احدًا منهم لا يعرف عدد المرات التي تعرض بها الأزيديون إلى إبادات جماعية، تفوق الـ73 مرة على فترات بعيدة وقريبة.. لو كان قد اغتصب عرضي قوم أيزيديون لما تخليت عن ثأري، بل عن كراهيتي لهم - وهذا أضعف الإيمان- حتى ولو كان معلقا على أستار سور الصين المهم أنه من (الآخر) المغتصب لي. لماذا لم يفكروا بذلك ونحن المسلمين العرب أقرب ما لدينا نسب القبيلة! ونسب الثأر؟

دعانا صاحب الدار لمشاهدة مراسم الاحتفاء بليلة العيد بالمدينة نفسها.. تفتّحت أعيننا على منظر لا يُنسى: مشاعل من النار يحملها أبناء المدينة على تل مرتفع متوّج بمعبد، فرُصّعت أرض التل بنجوم متحركة؛ والسماء بإطلاقات ضوئية، وملائكة من الأطفال يمرحون بزيّ فلكلوري خاص بهم، ورجال ونساء يهنّئون بعضهم بالعيد.. كنا مندهشين من المنظر الساحر فهمس بأذني العتابي: أنا خجل منهم! كان أحد المصاحبين لنا، وهو قريب الشيخ كالو، قد انتبه لحواراتنا الهامسة فقال لي - مستدركًا - هل انتبهت على ملابس الأطفال؟ أليست تشبه التماثيل الكلدانية العراقية القديمة وكذلك البابلية والآشورية؟ هل انتبهت على غطاء الرأس كيف لفت عمامته؟ وكأنني أمام تجسيد لتمثال بابلي.. أدركت مقصده؛ أراد أن يقول نحن العراقيين نحن أبناء الأرض ونحن سكان البلاد الأصليّين. وإذا ذهب بي الظن أن عنصرية تحفّزه فإن تأريخ السنة الأيزيدية أكثر دليلا منه فنحن إزاء السنة (6725) العراقية الأصل وهي أضعاف مضّعفة من تقاويمنا: الميلادية والهجرية..

(دكان الله!)

لم يكن اليوم الثاني - صبيحة العيد - من الرحلة خاليا من المفارقة والدهشة، ولكن هذه المرة صوب الحزن لا السعادة.. إلى جبل سنجار والقرى المجاورة له.. كانت أولى المحطات بل أولى الصدمات (قرية كوجو).. دخلناها صباحا ولم يستقبلنا أحد لا مبتسمًا ولا غاضبا: بيوت مهدمة، بعضها ببناء طيني ريفي قديم، وبعضها بمواد بناء شبه حديثة.. إلا أن القديم والحديث كلاهما مشلول الحياة تماما؛ فلا ضجيج فيها ولا هدوء ولا معابد ولا بشر أصلا.. سألت السائق، وهو أحد أفراد حماية الشيخ مراد كالو: أين أهل القرية؟ لماذا لم يعودوا إليها مادامت الأرض قد تحررت؟ أيعقل أن يتركوا أرضهم هكذا دفعة واحدة؟ صمت السائق وكنت أظنه منشغلا بأمر آخر وحين كررت السؤال عليه أجاب بهمس بالكاد سمعته: (استشهدوا جميعًا!!) نساءً ورجالا وعجائز وأطفالا! الكل قتل. لم أستوعب الخبر حتى أخذنا الأصدقاء الذين نحن بضيافتهم إلى قاعة مليئة بالصور الفردية مقسمة حسب العوائل بما يقارب الألف صورة.. إنها لأبناء القرية المغدورين في وضح (العراق)! تبدلت أحوالنا فما نبصره لفظيعًا. صورة أجمل من صورة، ووجه أحلى من وجه، وتكاد كل صورة تنظر إلى بيتها المهجور ثم تدير النظر لترحب بنا كما رحب أخوتهم الأحياء ليلة أمس.. قادني الهلع إلى تلك الديار المليئة بثقوب الرصاصات الإسلامية وهي تكبر الله وتحمده على (الظفر) بهم.. هل انذهلت كل مرضعة عما أرضعت؟ هل التفت الساق بالساق يوم جيء بهم لينالوا حكم (الخليفة) العادل!!.. وما بين ركام الطين المائل والحيطان المهدمة وإذا بلوحة تبزغ من ركام الوجع مكتوب عليها (دكان) وفي نهايتها (الله) وخفي ما بينهما حاولت قراءة المخفي فضاع عليّ المضاف إليه من الدكان غير أنني لمحت موقع كلمة الله إنها بقايا رسم للعلم العراقي، الذي رفعه صاحب الدكان مفتخرًا به لأنه علم بلاده ولا يدري بأن هذا الدال سيكون شعار القاتلين!

كانت مساحة الحزن هائلة ومساحة الصمت أهول؛ حتى اقترح علينا الشيخ مغادرة المكان الذي لم نعلم به من قبل جميعنا لم يعلم به: لا الصحفي ولا الكاتب ولا الناقد ولا الدبلوماسي..

(شقائق النعمان)

وفي طريق الصعود إلى جبل سنجار صادفتنا أرض بتراب صحراوي مطرّزة بورد أحمر يرغمك على التمعن به بل أرغمني على السؤال مرة أخرى كيف لأرض جرداء من الاخضرار أن تنبت وردا يشع في احمراره وجماله؟ أجاب السائق إنها (شقائق النعمان) هنا أدركت أن لكل امرئ نصيبًا من (طبيعته) فالأيزيديون، أبناء هذه الأرض، يشبهون ورد النعمان ويصرون على الحياة والانبعاث من جديد رغم تصحر الفضاء الذي يحيط بهم.. صعدنا الجبل وفي كل صخرة منه حكاية وفي كل فسحة خضراء منه باقة من شقائق النعمان: نساء بزي العيد وأطفال تمرح وترقص مع الفراشات ورجال منشغلون بالشواء وشباب يرقصون على إيقاع الحياة.. إنه عيدهم وإنه جبلهم الذي آواهم من طوفان الدين!

أما قبل: فما أكثر من كتب عن الأيزيديين - بعد إبادتهم -: شعرا وسردا ومقالات ومسرحا ومسلسلات.. غير أنه ما أقل ما كتب عنهم قبل ذلك لماذا؟ ولماذا أغلب ما كتب إنما من منطلق (التعاطف!) أو (الرثاء!) قويّ يتعاطف مع ضعيف وحيّ يرثي ميتا، أجسادهم ودماؤهم مرتع للحزن والعطف والإحسان اللغوي والفذلكة البلاغية.. هل يوجد اعتراف بأنهم أصحاب هوية أصيلة! وهل (الأقلية) تعني أقلية الوجود والهوية؟ والأكثرية هي من تمثل (الحقيقة) الوجودية؟ أنا لا أعني هنا التمثيل السياسي أو البرلماني إنما أعني البعد الثقافي والاجتماعي الطارد لهم لأنه مهما اختلف مسمياته فهو بعد ديني. لا شرعية لآخر لا يؤمن به.. أيمانهم بمعتقداتهم تسهل الطريق لمن يطمع بهم وهو الإيمان نفسه الذي يجعلهم (شقائق العراق) التي لا تخشى الجدب، فتنهض من قلب التراب اليابس مليئة بألوان الحياة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ليفربول يخسر وديا أمام بريستون

مجلس الخدمة ينشر توزيع حملة الشهادات والاوائل المعينين حديثا

البرلمان يشكل لجنة إثر التجاوزات على اقتصاد العراق وأراضيه

بايدن يرفض دعوات الانسحاب من الانتخابات الامريكية : انتظروني الأسبوع المقبل

وفاة محافظ نينوى الأسبق دريد كشمولة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram