اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > خان الذهب : قسوة محمد حنش التي لن ننساها

خان الذهب : قسوة محمد حنش التي لن ننساها

نشر في: 7 مايو, 2023: 09:59 م

سليم سوزه

إن كانت الممثلة والمطربة الأمريكية الأسطورة أثيل ميرمان قد قالت "من العبث على كتّاب الدراما أن ينتجوا شيئاً يفهمه الرجل العادي"،

وإن كان قد قال قبلها الفنان بيكاسو "أنا لا أرسم للدجاج"، فذلك لأنهما مخلصان لحقبة الحداثة التي ظهرا فيها، تلك الحقبة التي اتّسمَت فنونها، وخلافاً لما بعد الحداثة، بالنخبوية المشوبة بالغموض والالغاز والتعالي على كل ما كان يوصف بالشعبي واليومي والعادي.

"خان الذهب" مسلسل عراقي له رأي آخر فيما يقوله بيكاسو وتعضّده ميرمان. لقد اصطف هذا المسلسل مع رؤية ما بعد الحداثة، وحوّل الشعبي واليومي والعادي إلى دراما مشوّقة يفهمها الناس العاديون ويتفاعل معها أصحاب الاختصاص كذلك. لقد كتب المؤلف محمد حنش أحداث مسلسله هذا بنسقٍ خطّي تصاعدي، بمعنى أنها ليست سرداً معقّداً تتداخل فيه النهايات مع البدايات، أو يبدأ فيها حنش من منتصف حبكته وينطلق من أكثر لحظاتها غموضاً ليعود إلى الوراء فيما بعد ويعود معه المخرج في فلاشباكات متعاقبة حتى يحل ذلك الغموض في ذهن المتلقي. لكنه، مع ذلك، حرص على أن يترك شيئاً من الحيرة لدى المشاهد في نهاية كل حلقة، ليدَعَه يتساءل في سرّه ما الذي سيحدث في الحلقة القادمة، وأعتقده نجح بشكل ملفت في صناعة الاثارة والتشويق في نصه هذا.

بالتأكيد، ليس لعملٍ أن ينجح من دون اكتمال شروطه، وشروط نجاح الدراما التلفزيونية (كما كل الاعمال المسرحية والسينمائية) مرهون بعدة عوامل: كاتب جيد، ومخرج ذكي، وممثّل ماهر، ومنتج سخي. لا بد لي أن أشيد أيضاً بمخرج العمل اللبناني، بهاء خداج، فهو مخرج فيديوكليبات غنائية ولم يسبق له أن أخرج عملاً درامياً، لكنه انتصر على الخبرة بالجرأة، وبرعَ في تحويل نص حنش المكتوب إلى جسدٍ مرئي، وساعده في ذلك الاداء الممتاز من قبل الممثلين الرواد والشباب.

لست متفاجئاً من اداء الرواد في هذا المسلسل، فقد أبدع الفنان سامي قفطان والفنانة أميرة جواد والفنان طه علوان والفنان كريم محسن والفنانة سمر محمد والفنانة بتول عزيز والفنانة عواطف نعيم (على قصر دورها) في تقمّص الكاريكترات المرسومة لهم بحرفية عالية. لهؤلاء الفنانين باع طويلة في التمثيل، أتت من خبرة كل تلك السنين التي قضوها خلف الكاميرا. ولست متفاجئاً أيضاً من اداء الفنان غسان اسماعيل الذي لم يكن هذا المسلسل عمله الأول. بدأ حياته ممثلاً كوميدياً، لكنه تحوّل إلى فنان متعدّد المواهب في أعماله الدرامية الأخيرة. إنه الفنان الذي يجيد تجسيد الأدوار الصعبة والمركّبة، تلك الأدوار التي تطلب منه أن يكون رجلاً شريراً وسيئاً، على أن لا يفقد حس الفكاهة في نبرته وحواراته وتعابير وجهه وحركات يديه حتى مع كمية الشر التي يحملها في داخله حسب السيناريو المُعَد. هذا ما فعله في "خان الذهب" عبر شخصية "سالم"، ونجح في ذلك بامتياز.

أنا، بصراحة، متفاجئ من الاداء الرائع لبعض الفنانين الشباب في هذا المسلسل، تلك الوجوه الجديدة التي برهنت لنا أنه من الممكن للموهبة أن تتغلّب على الخبرة.

منذ أول حلقتين فحسب، لفت نظري اداء الفنانة سارة البحراني، تلك التي مثّلت دور صابرين، زوجة "سالم" (الفنان غسان اسماعيل) في المسلسل. لعلي لست الوحيد الذي انتبه إلى ادائها العميق والمؤثر وهي تجسّد دور الزوجة الحاقدة المُشبَّعة بالكراهية والغيرة والخبث ضد كل ما يحيط بها، ولا يهمها سوى المال فحسب. طوّعت الكاميرا نحوها، ولم تخف منها، وهي التي في بداية مشوارها الفني. صارت تتحكم بالكاميرا كما لو أنها وقفت أمامه من سنين طويلة. لم أكن أشعر أنها تمثّل أبداً، ذلك لأنها استطاعت أن تقنعنا أن "صابرين" في المسلسل هي نفسها "سارة" في الواقع، وهذا لعمري قمّة ما يمكن أن يقدّمه الممثل للمشاهد. كرهناها بشدة لدورها هذا الذي كانت فيه شرَّاً يمشي على قدمين، ولا أدري كيف ستمحو صورة "صابرين" من أذهاننا في أعمالها القادمة. هذا هو التحدّي الأكبر لنجمة المستقبل القادمة، سارة البحراني.

لا يمكنني أن أكتب بالتفصيل عن اداء كل فنان في هذا المسلسل خشية الاطالة، لكني لا أنسى هنا الفنان سيف الشريف الذي قام بدور البطولة عبر شخصية "أمير" والفنانة الشابة سارة أوس التي أدّت دور "شمس"، والتي انبهرتُ بأدائها مسبقاً في مسلسل "الماس مكسور"، المسلسل الذي كتبه محمد حنش أيضاً في رمضان الفائت. منذ تلك اللحظة، وجدتُ أوساً مؤدية عظيمة تستحق أن تأخذ مكانتها الطبيعية في عالم التمثيل. كتبتُ لحنش وقتها أن هذه الفتاة الموهوبة مشروع نجمة في المستقبل بسبب براءتها وتلقائيتها المفرطة أمام الكاميرا، وهي في هذا العمر. كلاهما، اوس والشريف برعا في دوريهما إلى درجة أنهما زاحما رواد الفن في ادائهما الملفت. سيف الشريف وجه جديد في الدراما، وهو، باعتقادي، مشروع تراجيديان خطير في المستقبل.

أما الفنان أحمد بيبر الذي مثّل دور "ضياء" والفنانة رويده شاهين التي أدّت دور "حياة"، زوجة "أمير" (الفنان سيف الشريف) في المسلسل، فكلاهما بحاجة إلى الوقت قليلاً كي يقنعانا أنهما لا يمثّلان، بل يجسّدان دوريهما كواقع يفرض على المتلقي تصديقه. لا أريد أن أكون قاسياً عليهما، واعتقد أنهما أدّيا بشكل جيد لولا بعض الهفوات وبعض التصنّع والتكلّف والبطء في طريقة حديثهما وتعابير وجهيهما أمام الكاميرا في بعض المشاهد فقط. لهذين الفنانين مستقبل واعد، وسيصقل الزمن موهبتهما حتماً.

ثمّة أيضاً الفنان أحمد الخفاجي في دور "هيثم" والفنانة أميمة جواد الشكرچي في دور "بيداء" والفنانة الشابة غصون الطحان في دور "مروة"، وقد أدّوا أدوارهم بشكل جيد. أعرف أن الخفاجي قد مثّل قبل هذا المسلسل، وهو ما ساهم في تطوّر ادائه اليوم. أنا معجب بأداء هذا الفنان الشاب منذ مسلسل "حيرة". لكن أن تظهر الشكرچي والطحان، وهما وجهان جديدان، بهذا المستوى، فهو أمر يستحق الثناء والاعجاب. إذ كما أراد المؤلف والمخرج، كانت العفوية والمرح والسعادة والبسمة غير المتكلّفة لا تفارق وجه غصون الطحان الطفولي الجميل. في المقابل، كان الهدوء الروحاني يخيّم على ملامح أميمة الشكرچي في انسجام عميق مع دورها الذي تطلَّبَ نوعاً من الرزانة المعجونة بالحزن، الدور الذي ذكّرني بدور "نهاد" الذي أدّته الفنانة شذى سالم في مسلسل "فتاة في العشرين" في عام ١٩٧٩. اختيار الشكرچي والطحان لدوريهما هذين ضربة معلّم.

بالطبع، هناك بعض الأخطاء في المسلسل، أخطاء على مستوى الحوار واللهجة في الغالب، ومنها لهجة بعض الفنانين التي لا تستقيم مع الأدوار التي رُسِمَت لهم. أذكر على سبيل المثال، لهجة الفنان الشاب ناضر علام الذي قام بدور "يوسف"، وهو الذي يُفترَض أن يكون مسيحياً في عائلة "سمر محمد" المسيحية. كانت لهجته لهجة الجنوب العراقي، ولا أدري كيف مرَّ هذا الأمر على المخرج والمخرج المنفّذ، أو على القائمين على المسلسل بشكل عام، باعتبار أن المخرج لبناني وقد لا يعرف لهجات مدن العراق بدقة.

مع ذلك، من غير الانصاف اتخاذ بعض اخطاء الحوار والاخراج هذه أو المبالغة أحياناً، كما يراها بعضنا، في تجسيد شرّ الأخ نحو أخيه سبباً لمحاكمة المسلسل برمته، فليس ثمة عمل فني يخلو من أخطاءٍ كهذه.

العمل الفني، بالنهاية، هو خيال الكاتب الذي يتعكّز على الواقع لصناعة واقعٍ موازٍ لا يتطابق مئة بالمئة مع الواقع الذي نعيشه بالضرورة. دعونا نتذكر رائعة الكاتب أسامة أنور عكاشة، وأعني بها المسلسل المصري الشهير "الشهد والدموع" الذي أخرجه المخرج الكبير اسماعيل عبد الحافظ، وبُثَّ في ثمانينيات القرن المنصرم، كيف أن جشع الأخ الأكبر "يوسف شعبان" قد نال أيضاً من أخيه الأصغر "محمود الجندي"، بعد أن سرق حصته في الإرث وحاربه في رزقه ليموت الأخير حزناً وكمداً جراء ظلم أخيه وقسوته ووحشيته تلك. إن كنّا لم نشهد مثل هذا الحقد من الأخ تجاه أخيه، فذلك لا يمنع من وجوده في الواقع أو في خيال المؤلف.

حتى الحلقة قبل الأخيرة من "خان الذهب"، ظننا أن الشر منتصرٌ على الخير لا محالة، إذ كانت هذه الحكاية بمجملها ونصها واخراجها واداء فنانينها المميّز عملاً يستهدف دموع المتلقّين، تلك التي لم تنقطع في كل حلقة بسبب كمية القسوة التي أظهرها شقيق لشقيقه. لكن في الحلقة الأخيرة، حصل انقلاب Twist مهم في الأحداث لطالما انتظره المتلقي طويلاً كي يرى انتقام القدر من "شيطانَي" الشر في هذا المسلسل، سالم (غسان اسماعيل) وصابرين (سارة البحراني). انتظرت عدالة السماء ثلاثين حلقة حتى أحرقت صابرين بالنار وأجلست سالم على كُرسٍ متحرك، فأعاد المؤلف بذلك الأمور إلى نصابها في رسالة تقول أنَّ للشرّ نهاية. كانت نهاية عادلة حقاً رغم أنها لم تستطع محو تلك الأوجاع والأحزان التي عاشها المشاهدون مع بطل المسلسل المغدور "أمير" (سيف الشريف) وعائلته المسكينة.

"خان الذهب" حكاية درامية حزينة تُتَرْجِم واقعاً يعيشه الكثيرون في عالمنا هذا، واقع يتصارع فيه الشر والخير ويحقد فيه الأخ على أخيه بسبب المال والإرث وجشع النفس التي لا تشبع. جَلَدَنا محمد حنش بقسوة في حكايته هذه واستنزف دموعنا في تراجيدياه الثلاثينية، خصوصاً في مشهد موت البطل "أمير"، المشهد المدمِّر والمؤثر ذاك. لقد لامستْ هذه الحكاية حياة الكثير، وسلَّطَتْ الضوء على مشاكل عائلية واجتماعية نراها من حولنا كل يوم، ولربما هذا هو السبب الذي جعل المسلسل يحتل رقماً مهماً على مستوى المشاهدات ويصبح أنيس مائدة الافطار الرمضانية للعائلة العراقية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ليفربول يخسر وديا أمام بريستون

مجلس الخدمة ينشر توزيع حملة الشهادات والاوائل المعينين حديثا

البرلمان يشكل لجنة إثر التجاوزات على اقتصاد العراق وأراضيه

بايدن يرفض دعوات الانسحاب من الانتخابات الامريكية : انتظروني الأسبوع المقبل

وفاة محافظ نينوى الأسبق دريد كشمولة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram