طالب عبد العزيز
حين اعود الى الطفولة والصبا أتذكر أن عمّي عباس، الذي لم يكن له عقبٌ هو الذي أخذنا نحن، انا وآخَرَين اثنين من اولاد عمّي ليسجّلنا طلاباً في مدرسة السراجي الابتدائية، ولبلوغها بسلام كان علينا عبور الجسر المُقام على النهر المسمى باسمها ايضاً،
والذي جددَّ بناءه جيشُ المستعمر الانجليزي، مطلع القرن الماضي، وسوّاه بممرين ضيّقين للمشاة، وواحد للمركبات، ولعل الخطوات تلك، كانت الاولى خارج البيت والزقاق الصغير (السكّة). إذن، فهي سكة بيت أحمد العبد العزيز، جدّنا الرابع، التي كنّا نملأها بالبراءة واللعب والخصام، نحن أولاد الاعمام التسعة.
في العام 1898 كانت الدولة العثمانية قد أنشأت جسراً من الخشب على النهر، السراجي، ليس بعيداً عن الميناء القديم، الذي يعود بناؤه الى القرن السادس عشر الميلادي، وترِده السفن من الهند والخليج، لتفرغ حمولتها فيه، وتحمّل منه السلع المحلية مثل التمور والحبوب والخيول، والذي كان يعجُّ ويضجُّ بالحركة والنشاط في عهد الوالي حسين باشا، حتى بلغ عدد السفن التي ترده في الشهر الواحد 200 سفينة، حمولة الواحدة منها 150 طن، أي أنَّ 900 طن من البضائع تفرغ فيه يومياً. كانت ضريبة الدونم الواحد التي تفرضها الدولة العثمانية على البساتين الواقعة على نهر السراجي هي الاعلى بعد التي على نهر الخورة. لذا كان بيتنا وسط غابة النخل، تتخلله شبكة الانهار الطويلة، وغير المنتهية، ولطالما كانت مخلوقاتها تخيفنا. كان الوصول الى اسواق البصرة القديمة يمرُّ بفرع مائي يخرج بالقرب من ذنائب النهر.
نهر السراجي
أنَّتَ تُربكُني حَقّاً..
فهوَ مُتصِلٌ حَدَّ النَّخلِ،
وهوَ نَحوٌ مِنْ ثلاثةِ آلافِ جِريبٍ مَمسوحَة
وعليهِ قصبةٌ، فيها مَسجِدٌ
منارَتُهُ طويلةٌ، مُنقَّشةٌ بالفُسيفُساء
ليسَ في البَصرةِ على عِظمِها مثلُها
يقولُ البازيُّ (رحمه الله)
في سنةِ 1898 ساهَمَ المَلاَّكُونَ بِتشيِّيدِهْ
معَ البلديةِ وبَيتِ المالْ.
وجاءَ في اللَّطاِئفِ
أَنْ النَبهانيَّ (طيّب الله ثراه)
قالَ عَنْهُ: وعلى فَمهِ قَصْرٌ
أمَرَ ببنائِهِ المَرحوُمُ يُوسُفُ باشَا
أحمدُ القِرطّاسْ / هَديَّةً منهُ لقَرينتِهِ
مِنْ إرثِها الآيلِ لها
مِنْ والدِها المَرحومِ يُوسُف باشَا
بِنْ قاسمِ الزِهَيرِ، باشُ أَعْيانِ البَصرة
وَسَمعْتُ مَنْ يقولُ إنَّ دائِرةَ الكُمرك
والعَنْبارَ وبيتْ مُلَّا حَمَدْ
كُلَّها كانتْ على خاصِرتهِ اليُمنَى
ياه.. مَا أبْهى الأَسماءْ؟؟
ذلكَ هوَ جِسّرُ السَّراجي الخَشبْ.
في العام الماضي إقتضى هدم المدرسة، التي بنيت في عشرينات القرن الماضي، وتوسعة الشارع وابدال الجسر بآخر حديث، لكنني، لا احفل بما أُسْتُحدث، ففي عيني الكثير الخالد من العالم ذاك (المدرسة والطريق المحفوف بمئات النخل واشجار الدفلى التي لم يبق الفراش ابو حبيب من اغصانها واحداً إلا وأتى به عصاً لضربنا، والجسر بممريه الضيقين، وبمائه الذي نقصده في عطلة الصيف وو) لكنَّ نشرة الحائط المدرسية، التي كان يخطها معلم العربي صبري الدغمان، الشيوعي العائد من الجزائر كانت الاخلد في الروح،. فهو يعشق عبد الحليم حافظ، ولأنه كذلك فقد أطلق على إحدى نشراته تسمية(القناديل) فرسم الألف واللام والألف الثانية واللام الاخيرة على شكل شموع، ذاب بعضها، فسقطت نقاطاً على القاف والنون، ولكي يجعلها أجمل فقد جعل في الخلف منها صفين من الشموع، يضيئان جانبي شارع غير منته. عندما كبرت تذكرت أنَّ الاستاذ صبري كان يغني في لحظاته السعيدة أغنية عبد الحليم حافظ (ضيِّ القناديل) كلُّ زملائي الذين كانوا هناك يتذكرون حذاءَه الفرنسي، الاسود اللماع-ربما جلبه من الجزائر- وهو يرنم خطاه في ممر المدرسة الطويل، خارجاً من غرفة المعلمين، قبل دخوله الصف إلا أنا فلا أتذكره إلا مع عبد الحليم حافظ.