TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > قناديل ..عرافة من صانعات الأقدار

قناديل ..عرافة من صانعات الأقدار

نشر في: 7 أغسطس, 2010: 06:32 م

 لطفية الدليميمس بيل صانعة الملوك ومؤسسة الدول لم تكن غير مثقفة عضوية بددت أوهام المثقف الفنان الذي ينسحب إلى صومعة التخلي ويعيش عزلة النابذ  المترفع على الواقع، فلا يشارك في صنع الأحداث أثناء الفترات القلقة التي تتزامن مع سقوط قوى سياسية وظهور قوى جديدة ورؤى مختلفة على مسرح الأحداث ليحقق اهداف السياسة..
كلما كنت أمر في منطقة الباب المعظم وسط بغداد، أتطلع إلى (مقبرة الإنكليز) في محلة الكرنتينة، حيث تصطف مئات الصلبان والشواهد على القبور، وتتراءى لي الخاتون المس بيل صانعة الملوك والدول-بملابسها الموسلين الرقيقة وقبعتها التي ينسدل منها نقاب التول وعقدها اللؤلؤي الذي كان علامة مميزة لأناقتها  الارستقراطية المتحفظة- وأراها بهيئة عرافة من عرافات المصير وصانعات الأقدار اللائي شاركن في رسم خرائط العالم، تذكر شاهدة قبرها تاريخ ولادتها في1868وتاريخ وفاتها في الثاني عشر من تموز 1926، وعند هذا القبر وقف المندوب السامي البريطاني السير هنري دوبس وقال في ختام تأبينها (.. إن عظامها ترقد حيث أرادت لها أن ترقد في تربة العراق) و أراها تشير إلى ظلال الإمبراطورية  المنحسرة عن   الدولة الحديثة ( مملكة العراق )التي نهضت على تراث عراقي ممتد الى ازل الدهورواسهمت هي في اعادة الاعتبار لتاريخ العراق  وحضاراته  التي سبقت حضارات الارض ، اعتبر توماس ادوارد لورنس والشهير ب (لورنس العرب) عملها هذا -من أكبر ما قدر لامرأة أن تنهض بأعبائه- إن دولة العراق تمثل صرحا رائعا، حتى ولو تواصل بقاؤه لبضع سنوات فقط..)..كانت المس بيل شخصية أساسية في تقسيم الشرق الأوسط بعد سقوط الدولة العثمانية ، وهي امرأة استثنائية تثير الإعجاب والدهشة والغرابة ، لم تكن مثقفة سلبية منسحبة إلى برجها العالي  أو تتعامل مع الواقع  من مكانة مترفعة، بل كانت عالمة وشاعرة ومؤرخة وآثارية وناقدة ومكتشفة وعضوا بارزا في المخابرات البريطانية وكانت امرأة كرست خبراتها وحياتها لخدمة الإمبراطورية أثناء الحرب العالمية الأولى، وماتت من أجل أهدافها في تعزيز المستعمرات وتوسيع رقعتها وتنصيب حكامها، كانت المس بيل من أتباع المذهب الطبيعي الفيزيوقراطي وشعاره (دعه يمر، دعه يعمل) واشتهرت بأنها من هواة تسلق الجبال وبلوغ الذرا في كل عمل تؤديه، وكان دورها -ككل أدوار المستعمرين- بوجهين متناقضين في الآن ذاته، فهي عرابة الاحتلال الأول التي رسخت وجود بريطانيا في المنطقة، ومن جهة أخرى أسست دولة العراق الحديثةعلى ارض الحضارات العراقية ،  وكشفت  امتداد العراق الثقافي الى العصور الغابرة عن طريق ولعها بالآثار، فكانت تزور مواقع التنقيب وتشتري التحف واللقى من القرويين، وتجمع القطع الآثارية وأسست بجهدها الخلاق المتحف العراقي سنة 1923 الذي  سيستباح  بوجود القوات الامريكية –ياللمفارقة- في2003.. قراءة رسائل المس بيل وأوراقها الشخصية تكشف عن مستويات متراكبة من المعارف والمعلومات، وهي كمثل التنقيب في أطلال الحضارات واكتشاف الكنوز الخبيئة التي تعيد تشكيل المشهد السياسي لحقب خطيرة من تاريخ المنطقة، إنها لمتعة كبيرة أن يقرأ المرء رسائلها وهي الشغوفة برسم خرائط المستقبل، والبحث في كل ما يتعلق بالقبائل العربية، وتشكيل المؤسسات الحديثة.تلقي رسائلها الأضواء على مرحلة هامة من تاريخ العراق الحديث والنزعات الاستعمارية ، وتكشف جوانب شخصيتها المغامرة التي تمتاز بقوة إرادة وإصرار وبصيرة نافذة جديرة بمثقفة مؤثرة في صناعة القرار وتغيير مسارات التاريخ، إلى جانب امتلاكها قدرة تكييف الأمور لتحقيق أهدافها، وما امتازت به من مرونة ومهارة في الحوار ساعدتها في إقناع أشد الرجال عنادا وكبرياء ليكونوا طوع أمرها. بعيدا عن جهودها السياسية -وهي الحاكمة  المطلقة في العراق -كانت تواصل العمل في تنظيم المتحف العراقي متخلية عن إجازتها السنوية ومؤثرة البقاء في قيظ بغداد من أجل فهرسة الآثار وتنظيمها رغم هشاشة صحتها و التهاب رئتيها وكانها كانت تحدس نهاية دورها في الحياة والسياسة معا، وكان آخر عمل تولته  منصب مديرة الآثار بناء على رغبة الملك فيصل الأول الذي عرف ولعها الطاغي بالآثار وتوقها   لإنجاز المتحف العراقي بالسرعة الممكنة، وتخليدا لجهودها الآثارية وعشقها لحضارات العراق القديمة، تأسست سنة 1929المدرسة البريطانية للآثار في العراق  ليكشف روادها عن المزيد من أصول العراق الحضارية وسبقه في ابتكار مفردات الحضارة الإنسانية..

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram