طالب عبد العزيز
أخرج المهندسون المدنيون التماثيل والنصب من قاعات المتاحف المظلمة الى الشمس والفضاء الخارجي، وفي دورة الزمن الكبرى باتت جزءاً من قانون ومرتسمات التخطيط العام لأي مدينة، لا لملء الفراغ بل لأتمام الصورة، التي ستكون عليها، ثم انتهوا الى ما نراه من الاعمال تلك في ساحات وشوارع المدن القديمة والحديثة، على حد سواء، وهكذا وقفنا نتامل، مثنين على الجمال في الاعمال تلك، أو متحدثين بسوء عن المرتجل والرديء منها، ضمن مسؤولية جمالية وحضارية مشتركة بين الصانع النحات والمتلقي المستفيد.
تجاوزت فكرة التماثيل والنصب في بناء المدن حدودها التزينية الى ضرورة بَصَريَة، ومهمة حضارية، والى ما هو أبعد من ذلك، ثم تعاظمت الفكرة لتدخل في صلب أعمال التخطيط والبناء، وعبر الزمن صار الحديث عن المدن التاريخية الكبرى بلا معنى، خارج عنايتنا بالاعمال العظيمة التي تنتصب في شوارعها وساحاتها وحدائقها هناك، فهي تشكل الصورة الحقيقة لمعنى المدينة، ذلك لأن ما نحتفظ به في عودتنا منها ليس الانسان، بل ما أقامه وشيده الإنسان هناك من علامات وأفكار ومعالم. وهل من حديث عن روما وأثينا وباريس وبودابست خارج ما أقامه المثالون والفنانون والمهندسون البارعون هناك؟
ظلت المدن العراقية فقيرة الساحات، منقوصة الصورة، بسبب التشريع الديني، الذي يحرّم التشبيه والتجسيم، وقبل تمثال الجنرال ستانلي مود، قائد حملة بلاد الرافدين، في الجيش البريطاني، الذي ازيح الستار عنه في العام 1932 لم يُرَ في بلاد العراق تمثالٌ، وكانت مناسبة غير مشرّفة، بكل تاكيد، لذا أسقط التمثال في ثورة 1958. ما يؤسف له أنَّ فكرة النصب والتماثيل عند كثير من العراقيين(ساسة ومجتمع) ترتبط بالبطولة لا بقيم الجمال، ولو استثنينا ما أقيم في فترة عبد الكريم قاسم (نصب الحرية، الام..) وبعض الاعمال التي أنجزت في سبعينات وثمانينات القرن الماضي لما عثرنا على ما يمكن تأمله جمالياً وانسانياً خارج حدود القوة والبطولة والانتصار.
بعد سقوط نظام صدام حسين بسنتين حمل المتشددون الاسلاميون فؤوسهم وانهالوا بالضرب على نصب السندباد البحري، المقام في ساحة الطيران، بالبصرة، ثم عمدوا الى قلعه بالجرافات نهائياً، ولكي تكمل صورة التردي شيدوا مكانه نصباً، على هيئة قبر، دون أيِّ لمسة للجمال، قبر يحاكي شهداء العام 1991 الذين انتفضوا ضد النظام آنذاك. ليس الموضوع نقيصة وسبةً، التنفيذ هو السُّبّة. كلُّ الاعمال النحتية التاريخية العظيمة التي تزين المتاحف كانت تحاكي البطولة والانتصارات، لكنَّ الذين صنعوها كانوا عباقرة، وكانوا مفكرين عظماء، درسوا الفن وفهموه لا بوصفه محاكاة جامدة وتعبير صوري، إنما بوصفه بذخاً فكرياً، وخلاصة لأفكار كبرى، فقامت أعمالهم لتخلد في الزمن.
لم يصمد النصب(القبر) هذا طويلاً. أمس، حين مررتُ بالساحة كانت الجرافة- ربما هي ذاتها- قد أزالته بالتمام، الآن، أفكرُ بالجهة التي تعمل على إحلال البديل له، من هي؟ وكيف سيكون، أما آن لفناني ومهندسي المدينة أن يُشركوا في الامر؟ وهل هناك المزيد من القبح؟ ومتى نخلص من ترسيخ قيم القتل والموت والنفي والقهر والتفوق الديني- الطائفي في ساحاتنا وشوارعنا؟ ومتى تمنع الحكومة أصحاب المشاريع السياسية والطائفية من نشر يافطاتهم ونشراlh]m تهم ومقاصدهم التي تجاوزت حدود الدين الى مشاريع ومناقصات واقتصاد الدين كما هو واضح وجلي.