ستار كاووش
وأنا جالسٌ في القطار الذاهب من هولندا الى مدينة دريسدن الألمانية، كنتُ أستعيد لمحات من الفن الألماني، أستحضر لوحات الفنانين الذي أحب أعمالهم، وخاصة لوحات الرسام كريخنر الذي تراءَتْ لي أشكاله العجيبة الملونة وهي تتراقص قرب وجهي على زجاج نافذة ذلك القطار الذي كان يتهادى بين الحقول الواسعة شمال هولندا.
طالما جذبني كريخنر المجدد، بألوانه الصريحة وابتكاراته التي خرجت من مرسمه بمدينة دريسدن، وشملَ تأثيره كل ألمانيا، ثم تعدى ذلك ووصلَ الى كل العالم، حيث تتسابق المتاحف للإحتفاء بلوحاته. حين وصلتُ دريسدن، فكرتُ في البداية أن أتجول على ذات الطرقات التي سارَ كريخنر فوق أرصفتها، ثم أتوجه بعدها لزيارة متحف الفن الحديث الذي يضم مجموعة من أعماله. لكني قبل كل ذلك، إتجهتُ نحو نهر أَلبه الذي يغفو وسط المدينة وخطوتُ فوق جسر أوغُستوس متجهاً نحو الضفة الأخرى. وفي وسط الجسر توقفتُ قليلاً، محاولاً إستعادة خطوات كريخنر الذي وقف سنة 1905 في نفس المكان وعلى ذات الجسر، وهو منشغل بإيجاد صيغة جديدة يُعَبِّر فيها عن طموحاته الفنية، لتنطلق في رأسه فكرة جماعة الجسر التي أسسها صحبة ثلاثة رسامين من ذات المدينة هم شميدت روتلوف، أوتو مولر وإيريك هِيكيل. نظرتُ الى خطواتي وهي تسير فوق خطوات ذلك الفنان الذي يشبه صديقاً قديماً بالنسبة لي، ثم أكملتُ طريقي نحو المتحف لأتمعن وأقف أمام لوحاته، هو والتعبيريين الذين تأثرت بهم في بداياتي، وكانت أعمالهم حافزاً كبيراً بالنسبة لي للتعرف على التعبيرية الألمانية التي نهلتُ منها الكثير في بداية مشواري مع الرسم.
وصلتُ المتحف الذي إنتصبَ عالياً ببنايته الضخمة التي تُعيدنا الى الروح الألمانية الحية المتوثبة، يحيطه رصيف عريض مرصوف بحجارة رمادية. وما أن دخلت، حتى إنفتح أمامي عالم الرسم وسطوة اللون وحضور الأساتذة الذين شغلوا العالم بإنجازاتهم الفنية المبتكرة. فما أن ترى غوغان يتجاور مع ديغا في بداية الصالة الأولى حتى تشعر بعظمة الروح الفردية التي تميز بها هذان الفنانان، حيث يجد الناظر نفسه هنا بين إستراحتين، واحدة هي إستراحة فتاتين من تاهيتي في لوحة غوغان وتقابلها إستراحة راقصتي الباليه لديغا، يالجمال التناغم وروعة الانسجام بين اللوحتين. أمضي قليلاً، فأقف أمام لوحة بول كلي (الشمس الذهبية) فيغيب بصري مع التجريد حيث مساحات الأحمر ودرجاته الدافئة. لكن مهلاً، يجب أن لا أنسى (صديقي) القديم كريخنر، الذي جئتُ من أجله فوجدتُ نفسي محاطاً بكل هذا الجمال الذي يتكاثر بين قاعات المتحف وأروقته العديدة. لذا كان عليَّ أن أخصص بعض الوقت للوحاته التي ضمت بعض العاريات التي تحيطها أجواء المرسم كذلك مشاهد من الشارع لبعض الرجال بمعاطفهم الطويلة وقبعاتهم الداكنة، كذلك بعض النساء بملابسهن التي تعود لبداية القرن العشرين، وهن يتجولن بمحاذاة واجهات الصالونات والمحال التجارية المضيئة. لكن مادمنا بصدد التعبيرية، فلا يمكن أن يخلو المتحف من لوحات فنان ألماني آخر هو أوتو ديكس الذي أكملَ الطريق الذي بدأه مؤسسو التعبيرية، ليقدم لوحات تعكس الحالة النفسية والاجتماعية لحياة الناس في عشرينيات القرن العشرين، حيث رسم شخصياته بكل ما تحمله من قلق وتساؤلات وترقب وسط الأجواء المتوترة بين الحربين العالميتين كما في لوحته (عائلة الدكتور فريتز غلاسر) التي بان فيها قلق الشخصيات رغم ثرائهم الواضح. وكان للتعبيري النمساوي كوكوشكا حصة في هذا المتحف، حيث عُرضت له مجموعة من اللوحات منها بورتريت شخصي رسمه لنفسه بعجائن من اللون وفرشاة عريضة، حيث بدا واجماً وهو ينظر بعيداً بعينيه المتجهمتين. وبجانب لوحاته عُرضتْ بعض لوحات الفنان كورت إيخلر بأجواءه الغامضة ومنها لوحة (فتاة بفستان أحمر) والتي جلست كإنها تترقب شيئاً قادماً، فيما تلبدت السماء الداكنة خلفها، لتُزيد من غموض اللوحة. تجولتُ بين الكثير من اللوحات التي إختلفت تقنياتها ومواضيعها ومعالجاتها المتفردة، لكنها بشكل أو آخر، كانت تنضوي تحت التعبيرية التي أثرت كثيراً في تاريخ الفن، وما زال تأثيرها طاغياً. مضتْ الظهيرة بسرعة بين قاعات المتحف، وحين هَمِمتُ بالخروج، إستوقفني وجه حاد الملامح وكإنه يحاول سؤالي عن رأيي بما شاهدته من روائع، إقتربتُ من الوجه الذي بدا كإنه يخرج عن حدود اللوحة، ولم يكن ذلك سوى بورتريت شخصي للفنان العظيم كورت كويرنر الذي رسم نفسه بقبعته الرمادية وكنزته الصوفية الداكنة وملامحه الحادة، فيما كانت نظرته تقول الكثير عن حيرة رسام يريد أن يجد له موطيء قدم بين الكبار، وكان له ذلك حيث استخدم المتحف هذه اللوحة كإعلان عن معروضاته النادرة. خرجتُ من المتحف باحثاً عن فنجان قهوة، بعد أن ودعتُ هؤلاء الذي منحوني الكثير من الجمال الممزوج بأسرار الرسم، ووهبوني القدرة على عدم التخلي عن هذا الطريق، طريق الفن الذي يستوعبنا جميعاً إن كنا مُحبينَ حقاً لعملنا ومخلصين له.