طالب عبد العزيز
أوهِمتُ في روما بأنَّ الحجر الذي بنيت المتاحفُ والابنية القديمة به هو ذاته الذي شيّده الرومان قبل آلاف السنين، ذلك لأنني حديث العهد بمعرفة الآثار وآلية تجديدها، وربما أوهِم غيري من السيّاح، الذين زاروا المدينة، إذ أنهم انتخبوا الفرق المتخصصة في صيانة المعالم القديمة، بما أوهمنا به جميعاً،
وهنا تكمن قدرة المؤسسات على تسويق الحضارات خاصتها، بغض النظر عن حقيقة ما كتب وأشيعَ عنها، إذا ما علمنا بأنَّ التاريخ القديم لا يؤخذ على حقيقته المطلقة، إنما هو مادة تحتمل الفرض والتصور.
ينجذب السائحُ للمعالم تلك بقوة الترويج لها أولاً، وتتسلل أهميتُها الى فكره وروحه عبر وسائل عدة، ليس أقلها وسائل الإعلام، بما فيها الصناعة السينمائية، وأحاديث الفلاسفة والمفكرين، وكتب الشعراء والروائيين، وروسومات الفنانين وغير ذلك، وربما بالغت الوسائلُ تلك في أهمية المعالم هذه، لكنها، ودونما شعور منا توغلت عميقاً في الذاكرة، وانتهت جزءاً بالغ الاهمية فيها وفي التراث الانساني، الذي لا نجد بدَّاً من البحث عنه، ومعرفته، والسعي الى مشاهدته، وهكذا صرنا نعرف عنه الكثير، فدخل مادة حديثنا، ومثالاً نستحضره في ما نكتب، ونعمل عليه، دونما سؤال منّا عن حقيقة أهميته، وهنا تكمن عبقرية المُسوّق.
ما فعلته السينما والتلفزيون في ايطاليا وباريس وهوليود خلال القرن العشرين في تسويق الرموز الفنية(ممثلين وممثلات ومغنين وراقصين ومدن ومعالم أخر...) كان ابلغ مما قدمه مروّجو الاثار والادلاء السياحيين، ذلك لأنهم جمعوا الاثنين معاً، حتى صرنا نعرف المكان الذي صُوّرتْ فيه أفلام غريتا غاربو أو مارلين مونرو وجيمس بوند وصوفيا لورلين ومونيكا بيلوتشي ووو. صناعة المحتوى، التي تحدثت عنها التشريعات العراقية أغفلت الجانب المضيء في القضية، لأنها غضت النظر عن كل ما هو تاريخي وآثاري وسياحي في البلاد، وذهبت بجماع وعيها، إن كانت تعي، الى من يهدد حكمها لتعاقبه بجملة القوانين التي اصدرتها.
يثير إنموذج صاحب المحتوى الاهم، بائع الكتب حسين سعدون قضية تقع ضمن تصورنا عن ما كتبنا في الورقة هذه، إذ أنَّ تكريس الظاهرة سينتج ضواهر مجاورة، أيّ ظاهرة، والإنسان بعامة يتأثر بالتداعي، ولو منحت ظاهرة سعدون حيزاً كبيراً لفعلت ما هو اكبر من فعلها الحالي. قبل سنة تقريباً، أعلن أحد شيوخ القبائل في البصرة(الشيخ مزاحم الكنعان) بأنه منع أفراد قبيلته من فعل (الدكة) ضد أيٍّ من خصومهم، وانه يلجأ الى القوانين في حلِّ خصومات أبناء قبيلته إن وقعت، وقد حذت بعض القبائل حذوه، لكنَّ الظاهرة هذه لم تلق الصدى اللائق بها، ولو تم تداولها من قبل شخصيات حكومية وحزبية وإعلامية لفعلت فعلها بين الناس ايضاً، ولغيرت كثيراً في أخلاق وسلوكيات شيوخ وأبناء العشائر الاخرى.
إنَّ أخطر ما تقوم به وسائل الاعلام هو استقدامها لبعض السياسيين الفاشلين، ومنحهم الفرص في استعراض(مآثرهم)حتى باتوا يمثلون صورة البلاد القبيحة، في سوء الحكم والفساد والقتل واللصوصية، لو أنها هجرتهم، وتركتهم خارج عنايتها، واستعاضت عنهم بالحقيقيين من العراقيين، أدباء ومثقفين وفنانين وآثاريين واصحاب مهن شريفة وصناع محتويات جميلة وسواهم لكان ذلك فخراً لها. صناعة البلاد تتطلب تقديم الرجل الوطني، والغيور والنبيل والصادق والمخلص والعالم والعارف والأمين وو وتكريس صورهم ومشاريعهم وتسويقهم للعالم بوصفهم ثمرة التغيير العراقية، والمثال الانساني، والانموذج الراقي، وإحلالهم بدلاً عن هؤلاء القبحاء، الذين سوّدوا وجه العراق، وقدموه للعالم كاتعس بلاد للعيش.
ظل جان بول سارتر على خلافه مع البرجوازية الفرنسية الحاكمة في فرنسا، لكنه حين مات دخل على الرئيس ميتران سكرتيرُه الشخصي، وهو مجتمع بوزارته، وهمس بإذنه شيئاً، عندها وقف ميتران وقال كلمته الشهيرة:" لقد خسرت فرنسا واحداً من عظمائها، لقد مات جان بول سارتر". كانت صورة الفنانة رحمة رياض في افتتاح خليجي 25 بملعب النخلة في البصرة أكثر بهاءً وأجمل من عشرات الصور الرسمية التي حضرت الافتتاح. هل نستحضر صور جميلات هوليود وماذا خلفن في قلوبنا؟؟