ثائر صالح
تناولت موضوع الأداء التاريخي في عدة مناسبات سابقة، وهو موضوع يكثر الحديث عنه اليوم. الأداء التاريخي هو تقديم الأعمال الموسيقية بطريقة تحاكي ظروف تكونها في العصر الذي كتبت فيها،
وهذا يسير على عدة مستويات. فقد جرت العادة على تقديم الأعمال التي كتبت في العصور السابقة باستعمال أدوات وتقنيات معاصرة، وهكذا بدأ إحياء موسيقى باخ منذ تقديم مندلسون عمل باخ "آلام المسيح" حسب إنجيل متى سنة 1829 على الأغلب، فقد قدمه مندلسون باستعمال الأوركسترا المعتادة في وقته مع كورس أكاديمية الغناء في برلين (يتألف من 150 مغنياً) بعد قرن من كتابة العمل تغيرت خلاله الأدوات الموسيقية وتقنيات العزف عليها وتشكيلة الأوركسترا وحجمها بشكل كبير.
استمر هذا التقليد في تقديم الأعمال القديمة بأدوات وعقلية معاصرة حتى فترة متأخرة من القرن العشرين، قبل أن يبدأ الموسيقيون في البحث عن طرق لتقديم الموسيقى القديمة لتُسمع كما كانت تؤدى في وقت تأليفها، وذلك بعد منتصف القرن الماضي تقريباً. وزادت شعبية هذا المنحى في السبعينات والثمانينات على الخصوص ليبلغ اليوم نضوجاً ويحتل موقعاً هاما في الحياة الفنية. رافق هذا التطور نقاش طويل عن أهمية وجدوى وسبل تحقيق هذا الهدف، ترافق مع ازدياد الاهتمام بالعلوم الموسيقية، من البحث في المخطوطات وتحقيقها حتى دراسة الأدوات القديمة واللوحات والرسوم وكل ما يتعلق بالموسيقى من مصادر مختلفة. وبينما كان التركيز يجري على موسيقى عصر النهضة والباروك، اتسعت الدائرة مؤخرا لتشمل مرحلتي الموسيقى الكلاسيكية والرومانتيكية التي تلتها. وقد حضرت مؤخراً امسية غناء بمصاحبة البيانو قدمت فيها أغاني هايدن وشومان وشتراوس جرى فيها تبديل البيانو ثلاث مرات، البيانو الأول كان نسخة من بيانو فالتر 1790 بدون دواسات، الثاني بيانو صنع شوت في فيينا من القرن التاسع عشر والثالث بيانو شتاينوي من القرن العشرين. كان الفارق في الصوت مذهلاً.
كل مؤلف يكتب وفق تقنيات وصوت الأداة التي يستعملها. فقد مر البيانو بمراحل تطور سريعة وظهر عدد من صناع البيانو المهرة اختلفت منتوجاتهم كثيراً بعضها عن البعض الآخر، خاصة في فيينا حيث بلغ عددهم 40 بحدود سنة 1800، مثل انتون فالتر، يوهان فريتس، كونراد غراف، ماكسيميليان شوت إلى جانب عائلة أرار الفرنسية الشهيرة، وقد استعمل بيتهوفن سبعة أنواع من البيانو في حياته، ابتدأ بشتاين ثم فالتر ومر على أرار وفريتس وشترايخر وبرودوود، واختتم بغراف (1826). تتعلق النقاشات التي برزت باستعمال الأدوات القديمة، أو نسخ جديدة عنها، وتأثير ذلك على نوعية الصوت وتكنيك العزف وكلاهما يختلف بشكل ملحوظ. النقاش الآخر كان يدور حول طبقة الصوت التي لم تصبح قياسية إلا في القرن العشرين. وقد تنوعت الطبقة واختلفت من بلد لآخر ومن مدينة لأُخرى، وارتفع تردد النغمات تدريجياً مع تطور الأدوات وازدياد عدد العازفين في الأوركسترا. ووصل الأمر حتى نظام دوزان أدوات المفاتيح، فهناك من يترك نظام السلم المتساوي المعمول به اليوم ويعود إلى الأنظمة القديمة مثل أنواع السلم المعدل، وهذا يغير من نكهة الموسيقى بشكل محسوس.
ينسحب الأمر على الغناء كذلك، فهناك اختلافات في طريقة الغناء وأداء الزخارف الخاصة بعصر الباروك مثلاً عنها في العصور التالية. وجرى إحياء وتطوير صوت كونتراتنور الرجالي لتعويض الأدوار التي كتبت للمغنين الذين تم إخصائهم قبل البلوغ للحفاظ على طبقة السوبرانو عندهم، وهم فئة من المغنين كان الطلب عليهم كبيراً في أوبرا عصر الباروك.