اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > قوة الملاحظة والتقشف في بناء الرسم (رسومات خضير الحميري نموذجا)

قوة الملاحظة والتقشف في بناء الرسم (رسومات خضير الحميري نموذجا)

نشر في: 21 مايو, 2023: 10:18 م

كريم سعدون

يعرف المهتمون والمتابعون لما ينشر من رسوم الكاريكاتير في الصحافة او الكتب المتخصصة اهميتها لاعتبار الكاريكاتير واحداً من الانواع الفنية التي تتصل مباشرة بالمتلقي وتقيم حوارها معه وتشده اليها،

وهذه الاهمية تنبع من المسارات التي سلكها مبدعوه والتي لاتبتعد كثيرا عما حصل لفن الرسم عبر تاريخه والمتعلق بتاريخ الانسان الحديث الذي تعرض وجوده الى قسر وتحديات.

وحيث ان رسام الكاريكاتير وجد في الصحافة جدرانا لعرض ماينجزه من رسومات فأن ازدهار هذا النوع الفني وتطور اساليبه ترافق مع ازدهارها ونموها وانتشارها الذي كان ولايزال مرتبطا بجو الحرية الذي يتوفر لها بعيدا عن الرقابة واشتراطاتها، وحيث ان الرقابة بتوصيفها وظيفة، لعبت دورا في اشاعة النكوص لدى المبدع والمتلقي على حد سواء فوجد رساموا الكاريكاتير في العمل على اِنجاز رسومات تكون ملاذا لهم للالتفاف عليها، فضمنوها معالجات تجعل ما انجزوه محمل بأوجه متعددة فاتحين بذلك ابواب التأويل على وسعها ويعد ذلك من اهم ما عمله الكاريكاتيريون باستخدامهم التورية كمضادٍ حيويٍ أبعدهم عن سطوة الرقابة بشكل فعال وحتم ذلك ظهور معالجات اسلوبية منها ماهو مباشر واخرى تلوذ بالتورية، وهذه الاساليب تختلف عن بعضها بدءً من الخط البسيط والمتقشف الى التكوين المعقد الذي يستعير ادوات تستخدم في الانواع الفنية الاخرى، فتطورت اتجاهاتها وظهرت مايمكن تسميتها مدارس مختلفة ومتعاقبة.

في العراق، كانت الثمانينات من اكثر السنوات ازدهارا للكاريكاتير العراقي، ليس بسبب هامش الحريات الشحيح، السائدةآنذاك، انما في قدرة الفنانين على استغلال اية مساحة متوفرة منه للتعبير عن افكارهم وبقدرتهم على استغلال فعل التورية في ذلك بشكل واضح، الا ان ما حصل في العراق بعد الغزو الامريكي سنة 2003 أوجد بسبب فوضى النشر الذي تحلل من أي قانون ينظمه، مساحات واسعة للنشر لكثرة ماصدر من صحف متنوعة الامر الذي اتاح فرصة لانطلاق رسامو الكاريكاتير فيها بعيدا، كما حقق استثمارا نوعيا لها هَدَفَ الى اثراء وابراز الوجه الحقيقي لطبيعة الكاريكاتير في معالجاته للوضع القائم وقدرته على النقد والتوجيه وهي واحدة من ابرز وظائفه، مما كشف بوضوح التألق الكبير لاساليب رساميه وطرق معالجاتهم ما يعني ازدهارا حقيقيا كان الرسامون بانتظاره فقد وفر مرونة كبيرة ومرانا في اظهار قدراتهم على انجاز اعمال ستشكل تأريخا مشرقا لهذا النوع الفني وقاعدة لانطلاق الباحثين لدراسته.

ان قراءة لما حصل في السنوات الماضية تدعو الى تسليط الضوء وتركيزه على تجربة الفنان خضير الحميري وهو رسام مخضرم وله مكانته البارزة في هذا المجال، كونها فرصة حقيقية ومؤشرا واضحا لمعرفة الآفاق التي وصل بها الكاريكاتير العراقي لما هو عليه الان.

يمكن للمهتم بالكاريكاتير وشؤونه من ملاحظة الميزات التي تطبع الاعمال التي انجزها الحميري طيلة فترة اشتغاله في هذا الميدان، حيث يمكن تقسيمها الى فترتي انجاز خصب، لأن مافيها من تميّز يتيح مقارنة جادة بينهما، هذه الميزات هي التي جعلت حضوره واضحاً ومميزا، فالملاحظة الاولى التي تتسم بها رسوماته، هي في قدرته كفنان متمرس على الاحاطة بالموضوع الذي يتناوله بالمعالجة، والتعبير عنه بالادوات التي طورها حيث شكلت عماد اسلوبه الذي عرف به، واستقر وفقا له في ابداعه المتواصل، والملاحظة الثانية التي تتعلق بتميّز الحميري بغزارته في الرسم، التي يستمدها من خزين ممتاز من الافكار، وهذه الميزات رافقت انجازه الفني في كلتا الفترتين، لكن من الجدير بنا، ملاحظة ملمحين مهمين يبرزان بوضوح عند أية مقاربة لبعضها وهما:

-اولا: التطور الشكلي في بناء الرسم الكاريكاتيري

-ثانيا:الجرأة التي تبرز بوضوح بعد ان ازال عنها الاعتماد، بشكل شبه تام، على التورية.

وحيث ان الكاريكاتير يعتمد في ايصال رسالته بسهولة على الوسيلة الكرافيكية البصرية الاكثر تقشفا وهي الخط فأنه عند الحميري يمتلك خصوصية واضحة فهو جعله يتمتع بانسيابيته وتعرجاته وتقطعاته ليرسخ شكل الشخوص التي يرسمها وكذلك مايحيط بها والتي تؤشر بوضوح الى بصمة الفنان وهوية رسوماته، اي انه ابتكر له اسلوبا يتميز به عن ما موجود في هذا الميدان من رسومات، اسلوب شخصي يشار له بسهولة، وفيه يركز الفنان على تبني معالجات في الخط تنسجم مع المستوى الذي وصل اليه بمرونة التعبير، والحقيقة ان ذلك هام جدا في أي تجربة كاريكاتيرية، لان فهم الكيفية التي يشتغل بها الشكل في الرسم الكاريكاتيري مهمة ليست سهلة وقد توقع الكثير من التجارب في زاوية تصعّب تقبلها وتضيَّع فرصة التفاعل معها، اذ ان الشكل في هذا النوع من الرسم مفتاحا لقبوله وتوسيع مدى التعاطف معه، فالحميري نجح في ابتكار الشكل البسيط الموحي والمرن والذي يتعامل معه بيسر وقدرة على تطويعه لتوصيل افكاره حتى بدا وكأنه مركزا لادارتها وليس اداة بيده فقط.

امتلك خضير الحميري، القدرة على بناء الفكرة واظهارها وسرعة انضاجها ما يجعله مهتما بالابتعاد في نفس الوقت عن كل ما يحد من وصولها السهل الى المتلقي، تلك السهولة، كامنة بوضوح في جهده الدائب لإيصال الفكرة كونه بتعد في رسوماته عن الزوائد التي تشكل ارباكا للتكوين الفني، ادراكا منه لحاجته إلى لغةٍ تخاطبُ متلقين من ثقافات متعددة، مستندا في ذلك على امتلاكه لثقافة تمكنه من الاستقراء والتوقع والتي تزداد باستمرار من خلال تراكم خبراته في الرسم والنشر.

نجد عند الفنان الحميري قصداً لتقشفه في بناء مفردات رسومه وفهماً عميقاً لذلك باعتماده الخط وسيلة لبناءها، وحتى في استخدامه لنسق لوني مضاف فيها، فالمتمعن في رسوماته لابد ان يلاحظ ان هذا التقشف الذي يمارسه في الخط لم يتأثر بوجود اللون وهو اضافة جديدة انتجتها معرفته للتقنيات الجديدة في تنفيذ اعماله، ولاحتى خربشات الخطوط في فضاء العمل فهو يعتمد ذلك قاعدة لابراز كل مايعبد طريق المتلقي الى الوصول الى فكرته.

ان الاختزال الذي يجريه الحميري في بناء الشخصيات الرئيسة في أعماله يعدُّ وسيلة مقصودة لفتح فضاء العمل وتركها تسبح في تكوين حر ومدروس بأحكام، فقد اصبح ذلك من اهم السمات الاسلوبية الواضحة في منجزه الفني، وهذه القدرة على إشغال مساحة الرسم بتكوين يريح العين ويوفر جوا لتقبله مهمة جدا لتوفير فرصة سهلة لوصول افكاره اولاً وعدم إرباك البصر بتفاصيل زائدة.

ان اهتمام الفنان في معالجاته تلك وحرصه عليها هو ادراك لمسؤوليته إزاء المتلقي الذي يترقب الإطلاع على الكاريكاتير الذي ينجزه وكذلك مسؤوليته إزاء الجريدة التي يمثلها لأنه في أحيان كثيرة نستطيع قراءة توجهاتها وشخصيتها من خلال الرسوم الكاريكاتيرية التي تنشرها والرسام الذي يعمل فيه.

في رسومات الحميري ورغم اعتماده اسلوبا متقشفا وحركة حرة في بناء عمله نلاحظ وجود التعليقات الكلامية التي يضمنها فيها، فهي تعمل على تسريع ايضاح فكرة الرسم، وتؤدي وظيفتها دون الاخلال بالشكل الفني الذي يعمل عليه فلاتجدها عبئا وانما اضافة لصلب الرسم وتجنبه من ان يكون توضيحيا فقط، فتفاعل التعليق المكتوب في فقاعة التعليق يعد تشكيلا بصريا لا يؤثر على الرسم بل يصبح معه كتلة ضرورية، تركزه وتزيد من المتعة في مشاهدته. من المعروف ان التعليق الذي ظهر في المراحل الاولى لتطور الكاريكاتير الحديث كان يشكل المركز الذي يخدمه الرسم ويبدو وكأنه (اي التعليق) موضوعا يزيّنهُ الرسم، الا انني ارى في ما اجترحه الحميري في أعماله المنجزة جعل فيها للرسم اولوية لتركيز نظر المتلقي ويأتي التعليق مرافقا متوازيا معه ويعمل على تركيز تلقيه، ويتميز التعليق لديه بأستعارات لفظية مقننة وتتمتع بطرافتها وحس الفكاهة والسخرية اللاذعة فيها، لذلك استخدم الحميري قدرته في استخدام اشارات شكلية مهمة لتسند ماذكرته وقدمها كاجراءات تنفيذية تستحوذ على الانتباه ومنها حركات الوجه بشكل عام كما استثمر حركات الجسد ايضا كلغة تعبير مضافة، فكان الفنان يلاحق أدق الايماءات في الشخصية التي تعيش الحدث- الفكرة، ويلتقطها ويجعلها من سماتها والتي تمنح بوجودها الحيوية للرسم والقوة في التأثير، و لتضيف الى سمات رسوماته الاسلوبية اضافة اخرى.

يعمد الحميري الى الغوص في افكار تمثل تحديات للانسان ووجوده ويثير انتباه المتلقين والمهتمين لها وهي افكار اوجدها العصر وتحدياته، فيتنقل من اكثر الموضوعات التي تتعلق بحياة المواطن الى افرزات الحدث السياسي وكل ما يهدد وجود الانسان ويؤثر على نوع الحياة التي يحياها وتلك كما اشرت تتطلب سرعة في التناول وقدرة على المعالجة واسلوب يقترب الى التقشف في البناء الشكلي بما يتيح اضاءة مباشرة على الموضوع وقوة في الاثارة تعتمد بالاساس على خبرة الفنان ومران اسلوبه.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ليفربول يخسر وديا أمام بريستون

مجلس الخدمة ينشر توزيع حملة الشهادات والاوائل المعينين حديثا

البرلمان يشكل لجنة إثر التجاوزات على اقتصاد العراق وأراضيه

بايدن يرفض دعوات الانسحاب من الانتخابات الامريكية : انتظروني الأسبوع المقبل

وفاة محافظ نينوى الأسبق دريد كشمولة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram