طالب عبد العزيز
في التاسعة بعد فجر الخميس الماضي تركتُ البصرة قاصداً الاحواز، صحبة صديقين لي. ومن هاتف يصعب الاتصال به وصلني صوت قاسم منيعات، السائق، الذي سيقلنا من نقطة الشلامجة الى المدينة التي كانت تحت جناح الشيخ خزعل الكعبي، قبل مئة عام.
أبى قاسمٌ إلّا أن يكون افطُارنا في بيته، قلنا له: لا. وأبينا معه، ألّا يكون له ذلك، فأخذنا غضبانَ، مستسلماً الى مطعم صغير بالقرب من قريتهم(قصبة المنيعات)يديريه شقيقٌ له، وفي فسحة البرية التي تلتئم على البيوت والنخل القليل، كانت القهوة عربيةً خالصةً والبيض بالطماطم مع القيمر والشاي فطوراً لثلاثة جائعين، تركوا منازلهم نائمةً بمن فيها، وخرجوا، يوحّدهم أملٌ بالوصول الى الفيلا الجميلة بديزفول.
ثانيةً يأبى قاسم أنْ يأخذ ثمن فطورنا، ولم تنفع معه ما أشرنا اليه من الدولارات في جيوبنا، وفي السيارة تنبهنا الى أنَّ الشايَ بطعم القرفة كان، وفيما يكادُ الغيمُ الرطب يلامسُ أعمدة الضوء، على الطريق الطويلة أخذتنا اليها سيرةُ الشيخ خزعل وظلم حاشيته، وغلظة حرّاسه فوجدنا الاسباب كافيةً في ضياع المملكة العربية الكبيرة، التي كانت له، المملكة التي تمتدُّ من البحر المالح الى الهور الاخضر، وعلى الارض المنبسطة التي لم تكن معسكراً لجنوده ذات يوم، أوقف قاسمٌ سيارته، ونزلنا لكي نضفي على المكان هيبةً.
كانت المنارةُ تُشهرَ هلالها بوجه النهار حين أخذنا طريقَ النخل، منحدرين الى النهر، ومن بطن مركبة قاسم الصغيرة مددنا أعناقنا لنداء الرجوع، وقبل أنْ يهُبَّ صديقُنا أحمد حيدري، مترجم الروايات الى الفارسية من دار مقامه، بالحيِّ الجديد، خارج محيط المدينة الكبيرة لاستقبالنا فاجأناه بسلّة البطيخ الاحمر، فقد استجبنا لنداءِ بائعه، صاحب المركبة العاطلة على الجادة، وأقنعنا بسكينه، التي شطرت البطيخة نصفين، قال: هذا النصفُ ليسَ لكم، وأطعمنا النصف الذي بيديه. كانت الشمسُ قد قطّعت الغيمَ الذي ظللنا على الطريق الى الاهواز، أما الشجر الذي جئنا به من الجنوب فمازال يصحبنا الى النهر، الكارون، العملاق المائي الطويل. كلُّ جسر عليه كان ملوّناً وبأعمدة طويلة، لكنْ، لا يبين من النخل الا ما كان غابة أو حزمة بيوت.
ظلَّ النهرُ الكارون يهدرُ مبتعداً في البرية النائية، غاضباً، زاهداً بالحجر والقصب والطين، ولم يعد الوقت ظافراً لدينا، فانتهينا الى سكة الحديد، وحين أوقفنا الحرسُ عند قُمرته مرّ الوقت رطباً من نافذة في جدار الضجر. ليتنا أخذنا من مخيض أمهاتنا حقَّنا على الطريق. ليت الشجرَ الطرفاءَ كان آمنا ولم تفزعْنا قبراته. كان الفلاحون قد أسلموا النار ليبيس القمح في البعيد فمرَّ الليل محترقاً بآماله، والفَراشُ يطير في اللهب الاصفر ويسقط، نحن نراه، فيعتم في الزجاج. كلُّ مذراة تُنشبُ في أجمة وتنام، كلُّ منجل صامتاً بين الحبال، والذين القوا باجسادهم على النهر أغلقوا ما اشرعوه البارحة، لهذا تركنا الخبزَ باللحمِ والبصلِ معلقاً، ولم تأكل االنعاجُ فضلة الأرغفة لهذا التحفَّ الدخانُ بردة النأيِّ وطلعَ الفجر.
لم تتخد الحكومة منزلَ الشيخ الكعبيَّ سرايَ لها، فظلَّ ينهدم تباعاً، والحجارة التي كانت مثابة العرب لم يبق منها الا ما كان حجارة، أمّا العَجمُ اللرُّ، الذين يتقدمهم رضى البهلوية منذ قرن ويزيد فقد أكثروا من الثغور على الجادَّة الطويلة، التي بين الاهواز وديسفول، فكانت النجوم فقيرةً هناك، اِهتدينا ببعضها، وتركنا النخل وراءَنا دالةً. العجمُ اللرُّ نزلوا من الجبل الذي كان لهم ذات يوم، وظلّوا ينزلون كلما أهلك البردُ لهم ثعلباً هناك، وكلما طاشت بنادق العرب، لكنهم أخذوا شرق المدينة كله، حتى اِمتلأ القصبُ العربيُّ بنسائهم.
كانَ الليلُ قد دخلَ الفيلا، باذخة الاناقة، بديزفول، قبل حلولنا بفنائها بساعات عشر، وكان الشجرُ البرتقال أخضرَ، لم تتلون ثمارُه بعد، نحن في العشرين من مايو، مايس، والبركةُ، المستحمُ، التي يُؤتي بمائها أزرقَ عذبا من بئر عند سورها الحجري، وينتهي في إيوانها المديني كلُّ ضجرٍ ويأس.. هناك، في قيعة كانت لأجدادنا أقمنا، أسقينا الخمرة مسلوبة من العنب، ومثلها ما سلب من التمر والتفاح، وأكلنا اللحم متقلِباً منزوعاً من أسياخ لم تمكث طويلاً على الجمر، وحين أخذتنا الاسرةُ الى مرضاتها لم يبق في المئذنة من فجر المدينة إلا القليل.