اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناطر: من البصرة الى الأهواز فديزفول

قناطر: من البصرة الى الأهواز فديزفول

نشر في: 23 مايو, 2023: 11:25 م

طالب عبد العزيز

في التاسعة بعد فجر الخميس الماضي تركتُ البصرة قاصداً الاحواز، صحبة صديقين لي. ومن هاتف يصعب الاتصال به وصلني صوت قاسم منيعات، السائق، الذي سيقلنا من نقطة الشلامجة الى المدينة التي كانت تحت جناح الشيخ خزعل الكعبي، قبل مئة عام.

أبى قاسمٌ إلّا أن يكون افطُارنا في بيته، قلنا له: لا. وأبينا معه، ألّا يكون له ذلك، فأخذنا غضبانَ، مستسلماً الى مطعم صغير بالقرب من قريتهم(قصبة المنيعات)يديريه شقيقٌ له، وفي فسحة البرية التي تلتئم على البيوت والنخل القليل، كانت القهوة عربيةً خالصةً والبيض بالطماطم مع القيمر والشاي فطوراً لثلاثة جائعين، تركوا منازلهم نائمةً بمن فيها، وخرجوا، يوحّدهم أملٌ بالوصول الى الفيلا الجميلة بديزفول.

ثانيةً يأبى قاسم أنْ يأخذ ثمن فطورنا، ولم تنفع معه ما أشرنا اليه من الدولارات في جيوبنا، وفي السيارة تنبهنا الى أنَّ الشايَ بطعم القرفة كان، وفيما يكادُ الغيمُ الرطب يلامسُ أعمدة الضوء، على الطريق الطويلة أخذتنا اليها سيرةُ الشيخ خزعل وظلم حاشيته، وغلظة حرّاسه فوجدنا الاسباب كافيةً في ضياع المملكة العربية الكبيرة، التي كانت له، المملكة التي تمتدُّ من البحر المالح الى الهور الاخضر، وعلى الارض المنبسطة التي لم تكن معسكراً لجنوده ذات يوم، أوقف قاسمٌ سيارته، ونزلنا لكي نضفي على المكان هيبةً.

كانت المنارةُ تُشهرَ هلالها بوجه النهار حين أخذنا طريقَ النخل، منحدرين الى النهر، ومن بطن مركبة قاسم الصغيرة مددنا أعناقنا لنداء الرجوع، وقبل أنْ يهُبَّ صديقُنا أحمد حيدري، مترجم الروايات الى الفارسية من دار مقامه، بالحيِّ الجديد، خارج محيط المدينة الكبيرة لاستقبالنا فاجأناه بسلّة البطيخ الاحمر، فقد استجبنا لنداءِ بائعه، صاحب المركبة العاطلة على الجادة، وأقنعنا بسكينه، التي شطرت البطيخة نصفين، قال: هذا النصفُ ليسَ لكم، وأطعمنا النصف الذي بيديه. كانت الشمسُ قد قطّعت الغيمَ الذي ظللنا على الطريق الى الاهواز، أما الشجر الذي جئنا به من الجنوب فمازال يصحبنا الى النهر، الكارون، العملاق المائي الطويل. كلُّ جسر عليه كان ملوّناً وبأعمدة طويلة، لكنْ، لا يبين من النخل الا ما كان غابة أو حزمة بيوت.

ظلَّ النهرُ الكارون يهدرُ مبتعداً في البرية النائية، غاضباً، زاهداً بالحجر والقصب والطين، ولم يعد الوقت ظافراً لدينا، فانتهينا الى سكة الحديد، وحين أوقفنا الحرسُ عند قُمرته مرّ الوقت رطباً من نافذة في جدار الضجر. ليتنا أخذنا من مخيض أمهاتنا حقَّنا على الطريق. ليت الشجرَ الطرفاءَ كان آمنا ولم تفزعْنا قبراته. كان الفلاحون قد أسلموا النار ليبيس القمح في البعيد فمرَّ الليل محترقاً بآماله، والفَراشُ يطير في اللهب الاصفر ويسقط، نحن نراه، فيعتم في الزجاج. كلُّ مذراة تُنشبُ في أجمة وتنام، كلُّ منجل صامتاً بين الحبال، والذين القوا باجسادهم على النهر أغلقوا ما اشرعوه البارحة، لهذا تركنا الخبزَ باللحمِ والبصلِ معلقاً، ولم تأكل االنعاجُ فضلة الأرغفة لهذا التحفَّ الدخانُ بردة النأيِّ وطلعَ الفجر.

لم تتخد الحكومة منزلَ الشيخ الكعبيَّ سرايَ لها، فظلَّ ينهدم تباعاً، والحجارة التي كانت مثابة العرب لم يبق منها الا ما كان حجارة، أمّا العَجمُ اللرُّ، الذين يتقدمهم رضى البهلوية منذ قرن ويزيد فقد أكثروا من الثغور على الجادَّة الطويلة، التي بين الاهواز وديسفول، فكانت النجوم فقيرةً هناك، اِهتدينا ببعضها، وتركنا النخل وراءَنا دالةً. العجمُ اللرُّ نزلوا من الجبل الذي كان لهم ذات يوم، وظلّوا ينزلون كلما أهلك البردُ لهم ثعلباً هناك، وكلما طاشت بنادق العرب، لكنهم أخذوا شرق المدينة كله، حتى اِمتلأ القصبُ العربيُّ بنسائهم.

كانَ الليلُ قد دخلَ الفيلا، باذخة الاناقة، بديزفول، قبل حلولنا بفنائها بساعات عشر، وكان الشجرُ البرتقال أخضرَ، لم تتلون ثمارُه بعد، نحن في العشرين من مايو، مايس، والبركةُ، المستحمُ، التي يُؤتي بمائها أزرقَ عذبا من بئر عند سورها الحجري، وينتهي في إيوانها المديني كلُّ ضجرٍ ويأس.. هناك، في قيعة كانت لأجدادنا أقمنا، أسقينا الخمرة مسلوبة من العنب، ومثلها ما سلب من التمر والتفاح، وأكلنا اللحم متقلِباً منزوعاً من أسياخ لم تمكث طويلاً على الجمر، وحين أخذتنا الاسرةُ الى مرضاتها لم يبق في المئذنة من فجر المدينة إلا القليل.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

وزير الداخلية في الفلوجة للإشراف على نقل المسؤولية الأمنية من الدفاع

أسعار الصرف في بغداد.. سجلت ارتفاعا

إغلاق صالتين للقمار والقبض على ثلاثة متهمين في بغداد

التخطيط تعلن قرب إطلاق العمل بخطة التنمية 2024-2028

طقس العراق صحو مع ارتفاع بدرجات الحرارة خلال الأيام المقبلة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

 علي حسين في السِّيرة الممتعة التي كتبتها كاترين موريس عن فيلسوف القرن العشرين جان بول سارتر ، تخبرنا أن العلاقة الفلسفية والأدبية التي كانت تربط بين الشاب كامو وفيلسوف الوجودية استبقت العلاقة بين...
علي حسين

كلاكيت: الجندي الذي شغف بالتمثيل

 علاء المفرجي رشح لخمس جوائز أوسكار. وكان أحد كبار نجوم MGM (مترو غولدوين ماير). كان لديه أيضا مهنة عسكرية وكان من مخضرمين الحرب العالمية الثانية. جيمس ستيوارت الذي يحتفل عشاق السينما بذكرى وفاته...
علاء المفرجي

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (2-2)الحكومة الجمهورية الأولىعشت أحداث الثورة في بغداد ثم عشت مضاعفاتها في النجف وأنا في الخامسة عشرة من عمري. وقد سحرتني هذه الحيوية السياسية التي عمّت المدينة وغطت على طابعها الديني العشائري.في متوسطة...
زهير الجزائري

ماذا وراء التعجيل بإعلان "خلو العراق من التلوث الإشعاعي"؟!

د. كاظم المقدادي (1)تصريحات مكررةشهدت السنوات الثلاث الأخيرة تصريحات عديدة مكررة لمسؤولين متنفذين قطاع البيئة عن " قرب إعلان خلو العراق من التلوث الإشعاعي". فقد صرح مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع التابع لوزارة...
د. كاظم المقدادي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram