ياسين طه حافظ
تثيرنا كتابة اليوميات اثارة ناعمة وشبه سريّةِ، فنجد متعةً فيما يلامسنا من متع او من مخفيات الغير . والسؤال: لماذا هذه الشذرات الحميمة تمتلك((ذلك)) التواصل الخاص بأرواحنا ؟ ولماذا نجد بها، مع كاتبها، غير الذي نحن عليه مع العالم، أصدقاء واشياء وممتلكات ؟
نحن هنا نقترب من ان نكون مع من يعرف ما فعلنا ولا يدري به الناس. هو يبدو الوحيد الذي يعرف ما اخفينا و مالا نريد ان نكشفه بسبب خصوصية او فرادة غير معتادة،...
ويبدوا اننا، دائماً، لا نخلو من سرَّ ما، لا نخلو مما يجهله الناس عنا، من غرابة او من حقائق مخفية نريدها لنا، وهذا القول يبقى صحيحاً اذا قلنا إننا دائماً نخشى من ان يُكتشَف خافٍ فينا، شيء لا يصدق أو" هل هذا معقول"
لكن ما يبدو مستغربا فينا هو معقول بالنسبة لنا وهو بعض اساس من شخصيتنا. وما قد تذكره رسائلنا أو يومياتنا أو احاديثنا الجانبية الخاصة وما يتخفى وراء طرائفنا، هي كلها معقوله: خسارات، عيوب اخلاقية او فكرية غزوات صغيرة سلوكات منحرفة اندفاعات، هوس او بطولات منقوصة او لا حقيقية، كلها بعض منا وهي كلها معقوله وعلينا أن نكف العناد والتعب في إقناع الناس. الحل هو الاستسلام لوجودها. ومن شاء غير هذا فليجرب وارى اننا سنلتقي في محطة واحدة. لقد تأكدتُ من هذه وسواها من تصرفات واحداث ومواقف وتصريحات أسرَّ بها اصدقاء، منهم اساتذة علماء ومنهم فنانون وكتاب. جاء منهم ما لايخطر على بال، وأن في مضمراتهم اموراً كتلك الخفية التي ذكرناها والتي تكوِّن القسم الفاعل والمهم من شخصياتنا وشخصياتهم.
هذا يعني اني لست وحدي في ذلك.وانا جميعاً ناس غيرنا امام الناس. واولئك الذين يظهرون ويعرفهم زملاؤهم في العمل او في الجوار، او في النادي او في الدائرة، ليسوا تماماً نحن. الاسماء والمظاهر وحدها متشابهة.
حين انتبهت لما فيّ من مضمر او سرّى، رحت افكر كيف جاء وكيف تكوّن ولماذا احتلّني وباية الاوقات. لكن هذه اسئلة لا تشفع لي من اجابتها جلسة تفكير. صرت متأكداً من شيء واحد هو أن اكثر ما يخص حياة الناس ليس ما يخص حياتي والصواب لهم ليس هو الصواب دائماً لي. فملاحظاتهم غير ملاحظاتي ومشاعرهم ليست تماماً مشاعري وخبراتهم والتحارب ليست هي تلك التي مررت بها وإن كان الحدث واحداً! نحن متشابهون اشكالاً لكننا مختلفون، مختلفون جداً.
ماهو مفاجيء أيضاً، ثمة حقائق اخرى، وراء الحقائق التي تكوّنني واني مزيج صنعته عوالم مختلفة وشخوص مختلفون واحداث ورؤى واصوات مختلفة. بعض هذه دائم مستتر في عالمي الشخصي الحالي وبعضها عابر ادّى فعلاً وترك اثراً وغاب.
إذاَ، انا صرت ادخل في المجهول، فيما لا اعرفه، في ظلال العالم او العالم الذي انا في ظلاله! واكتشفت ما ارعبني، ذلك انني ومنذ طفولتي في حالة تناقض وصراع تضادات بين انانيتي وبين اللاأنانية، بين ذات تريد نفسها وبين عالم يريد ان يصنع ذاتي او يريد ان يعيد صنعها، وان المحصلة بعد عقود هوهذا((الأنا)) الخليط او المزيج المدمرّ او الشائه او المسخ، الذي يكتب الآن.! هذا المخلوق الاسطوري. اسطورة تعاون على صنعها الآخرون بتصوراتهم عنه وصنعها هو بنفسه بقراءاته وتخيلاته. والنتيجة انني كما ارى نفسي واتصورها من ناحية وكما يراني الناس ويتصورونني من ناحية اخرى، وقد اسهمت في صنعي معاً، الحياة والثقافة، بل حتى شخوص الروايات ابطالاً او مهزومين. اجد فيَّ بعض من عشاق الاساطير القديمة ومنكسري الحروب والاسرى. واكثر من هذا اني واحد من الممتَحَنين في التاريخ.
ان هذا الشخص الاسطوري، بمعنى الذي صنعته الاساطير، صار هوايضاً صنّاع اساطير ليزيد غموض العالم وليزيد عدد التائهين ويسهم اكثر في وجود الوهميين، اللا حقيقيين، واولئك الذين اوجدتهم الصدف والنوايا فلا احد يعرفهم تماماً ولا هم يعرفون انفسهم ايضاً ونحن واولئك وغيرنا وغيرهم يعيشون معاً، بضعة مشتركات وكثير اختلاف.
وامام توزعنا وتنوعنا، كل ضمن فرديته، دائماً ما يوصي الحكماء والمربون واصحاب الرأي، أن يكون للواحد منا هدف يسعى إليه. لماذا؟ لأن هذا الهدف يجمع شتاته ويذكره بوجوده المادي الواقعي فلا يتيه. في الوقت نفسه، ولا يغضب على اصحاب العقائد والالتزامات، هو ايضاً" يصادر" مكوناته التي تحدثنا عنها وفي افضل الاحوال يخفف من اقتسامها له، فيصعب توجهه لهدفه أو للضوء الذي رأى.
نحن إذا بين حالين، بين تكوين هو ذلك الذي صار نحن وبين هدى وإرشاد او توجيه للانقاذ، كما يقولون. لإبقاء الحياة واقعية عملية وكما متفق عليها، رسمية بشكل من الأشكال...
بعد كل هذه السنين وبعد كل التطور الثقافي الذي شهده العصر ومدى الحرية المتاح، يمكن أن يقلّ الكذب وتتكاشف الناس بما تحسّ حقاً وبما تفكر به حقاً وما ترى حقاً! فاسمحوا لي بالقول، وبعدكل تلك التفاصيل:
اولاً، ان كل نفس حبيسةُ اسطورتها الخاصة يرويها كل فرد عن نفسه ويعيشها كل فرد كما يراها هو ويحس بها هو. ولانه يكررها ويرويها لنفسه وللناس باستمرار، ينتهي بالاقتناع التام بها، بانها هي هذه الحقيقية وهي ايضاَ التي يراها ويعرفها الناس. وحقيقة الأمر هي ليست سوى رؤية شخصية "مكوًنه" من عديد المصادر، هي محرّفة قليلاً أو كثيراً عن الواقع. ومثلما هي رؤية شخصية للنفس، للآخرين رؤاهم لها، ورؤى مختلفة. فلا يفزع اذا ما فوجيء برأي فيه لا يتوقعه عنه، او عن عمله، او عن عموم شخصيته وعموم او بعض ما يرى.
المفاجأة والاستفزاز والافزاع ياتي من ان الكلام يُحدِث يقظة، ينبِّه لحقيقة اخرى هي انك لست كذلك! لست كما ترى نفسك! اني اراك غير ما انت تظن! كيف نجد حلاً؟ هل تغير نفسك؟ وهذا يعني تعيد تكوينك او صناعتك، أم تغير تصور وفهم ورؤية الآخرين لك؟
كلاهما غير ممكن ولا عملي، فليس غير أن نبقى كما نحن عليه، مختلفين فيما نرى ونفهم ونظن. وهو واقع يجمعنا ونعيش، باختلافاتنا كلها، فيه. نبدو كما بندو، خطأً اوصواباً او نصف نصف، ولا حلّ! والاكثر خطورة اننا ايضاَ نرى الاخرين غالباَ انطلاقاً من فهمنا ومن رؤيتنا لانفسنا. عموماً الحياة غير مانريدها تكون، وكل المسعى هو ان نجد حلّاَ وسطا لنعيش معاً وفي ارض واحدة وربما لهذا وجدت القوانين والانظمة والتشريعات كلها، فقط للتقليل من وطأة الاختلاف ولتبقى الحياة على مابها وكما نحن فيها، حياة مختلفين ومختلفات...