طالب عبد العزيز
في المدن المهجورة المتربة التي تخلو شوارعها من النساء الجميلات سيكون لديك الكثير من الوقت لتذهب الى المقبرة، فإذا حدث أنْ دعتك إحداهن لعناق لا تتأخر، اقبله، وأكثر من القبل عليه، الجسد الانثوي الحار في البلاد الحارة هذه ضمادة للروح.
مرةً، وأنا أقرأ في كتاب مارينا تسفيتايفا عن الحياة والشعر، قلت لأكتب بقلمها بما ليس في قلمها، بعد أنْ أخذتني اليها عوالمُها، شديدة الحساسية، فاستعرت من البرد والثلج والبتولا ما شاقني وأحببته نكاية بنظام طقس المدينة المغبر القبيح.. فكتبتُ: الابرة والخيط وانستاسيا والبتولا.. سأذهب الى هناك، الى حيث لا أحد بمقدوره النسيان، لماذا انا شاحب؟ لا أدري! ربما كنت تشبثتُ بعنق غزالة قبل نفوقها قرب العشب. الغزالة أو هي كانت ابنة بقية النهار الذي تتركه السناجب لبعضها. تسمّي العربُ كلَّ ما لان واخضرَّ من قضبان الشجر عُسلوجاً، وتجمعُه عساليج، ومع أنَّ اجتماع حروف مثل العين والجيم واللام في كلمة واحدة لا ينتج مفردة منغّمةً، أقول ذلك بناء على -حساسية شخصية- إلا أنني وجدتها حلوة، خفيفةً، ولا أعرف كيف أحالتني الى حديث العُسيلة المرويِّ عن النبي:".. في الرَّجلِ تكونُ له المرأةُ فيُطلِّقُها"، أي: يُطلِّقُها ثلاثًا، وتَبِينُ منه، "فيتزوَّجُها رجُلٌ، فيُطلِّقُها قبْلَ أنْ يدخُلَ بها"، أي: يُطلِّقُها قبْلَ أنْ يطَأَها "أترجِعُ إلى الأوَّلِ؟ "، أي: هل يجوزُ لها أنْ ترجِعَ إلى زوجِها الأوَّلِ، بمجُرَّدِ العقْدِ وعدَمِ البِناءِ بها؟ فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "لا، حتَّى يذوقَ العُسَيلةَ"، وفي رِوايةٍ: "حتَّى تذوقَ عُسيلةَ الآخَرِ، ويذوقَ عُسيلَتَها" العُسلوج والعُسيلة مفردتان تهزّان قلبَ الشاعر إذن، أما العُسيلة فهي مما نجتهد في بلوغها. أحبُّ مجالسة أهل الكلام، الذين يذهبون باللغة الى العذب والمُستحسَن من المفردات والانساق والقصص، فأنا أتطبب بلغتهم، وأستوصفهم لقلبي، لذا أحتفظ أحيانا ببعض ما كتبوا، ووجدتُ في رائعة لامارتين(رافائيل) القطعة الجميلة هذه:"..
وأنَّ ما تراهُ وتسمعهُ من لألاء الشمس، وعبير النبت، وخرير الماء، والحان الهواء، وهدير الموج، وتغريد الطير ودوي البحيرة، وأصداء الغابة، في ساباط هذه الكنيسة المقوّض، وفي صحنها المهدم، وتحت قبابها الممزقة المغلقةلأروع وأجمل مما كان يملأها بالامس من اضواء الشموع ودخان البخور وترتيل الرهبان المتشابه في مواكب الصلاة وحفلات القداس... الطبيعة أكبر قساوسة الله، وامهر مصوريه، وأقدر شعرائه، وأبرع مغنيه". أفكرُ بمؤذن المسجد قرب بيتنا، صاحب الصوت الكريه، هذا الذي يلفظ امعاءه بالميكرفون.
في فيلم(Phantom Thread) خيط وهمي، وفي لحظة حبٍّ لم يقو على مقارعتها العظيم والمتماسك الصارم، البطل وودكوك" دانيال دي لويس" فيجثو عند قدمي الحسناء النائمة "ألما" (فيكي كريبز)التي كانت مستلقية على الاريكة بانوثتها الطاغية، وقد هدها التعب وانهكها السهر وانحسر ثوبها عن جسد لا أول ولا آخر لجماله. في اللقطة الفاصلة بين حديّ الانفة والاعتداد والحب والخضوع صحتُ: يا الله. ما الذي يحدثُ هناك؟ دائماً نعثر على ما يعبث باحاسيسنا، وكثيرا ما يكون الحبُّ واحداً من العابثين الكبار بحياتنا. في إحدى رسائلة الى ميلينا يكتب كافكا:" إني اسجدُ لاني ارى قدميك امام عيني، وانا أداعبهما، فلا تطلبي الصدق مني يا ميلينا، لا أحد يستطيع أنْ يطلبه أكثر مما طلبته شخصياً".