حيدر المحسن
أغلب البشر لا همّ لهم في المعيشة غير طلب السعادة، وهذه كلمة مائعة ليس لها تعريف واحد، فهي تختلف بين دولتين متجاورتين ومدينتين أو محلّتين أو دارَين يفصل بينهما سُور واحد، والقول الفصل يعود إلى المشاعر الإيجابية التي تجمع بيننا بأواصر الحبّ والإيثار والقناعة، وغير ذلك.
في عام 2019 صنّف تقرير السعادة العالمي (فنلندا) على أنه البلد الأكثر سعادة، فلدى الناس خدمات واسعة النطاق، وحرية في الصحافة وثقة بالحكومة لا مثيل لها. ولكن عندما تمّ اختبار المشاعر الإيجابية انقلب الجدول، وصارت بلدانٌ مثل (غواتيمالا) و(كوستاريكا) تحتلّ القمة، وابتعدت (فنلندا) كثيرا عنها، كما أن نسبة المرضى النفسيين والمنتحرين في البلدان التي تقلّ فيها المشاعر الإيجابية هي الأعلى، والسبب يعود إلى أن هذه تُحصّن الفرد، رغم هزال الحياة التي يعيشها، بقوّة داخلية عظيمة. هناك مزحة تقول إن الانطوائيّ الفنلندي ينظر إلى حذائه عندما يتحدث معك والمنفتح الفنلندي ينظر إلى حذائك.
توجد وفرة من المعاني المفعمة في الحياة، لكن لا معنى الحياة يمنحها المعنى الأشمل والأسمى والأعمّ. مايكل ستيجر، عالم أمريكيّ في علم النفس، توصّل في أبحاثه إلى هذه النتيجة: "كلما زاد حضور المعنى في حياة الشخص، كان ميله إلى السعي وراء المزيد أقل"، أي أننا كلما فهمنا الحياة أكثر قلّ طموحنا، وبالتالي سعينا، وربما اقتصر هذا على فعل الخير. الأفارقة والهنود يفرحون للرقص سواء كان ذلك مقابل المال أم من أجل السوّاح أم كان مجانيا للمتعة الشخصية، فهو بالنسبة إليهم طريقة للتعبير عن معنى حياتهم. وبالنسبة إلى الصينيين القدامى، وكذلك بعض المحدثين، فإن الشقاء الشخصي يُنظر إليه وسامَ شرفٍ، وهو المعنى القيّم والذي لا مثيل له للحياة لأنه يكشف عن التضحيات التي قام بها المرء لصالح أسرته وأمّته.
وتعني الحياة بالنسبة إلى شابّ فقير تعرّفتُ عليه في محلّ عملي لا أكثر من وجبة عشاء دسمة، فإذا لم يحصل عليها غاب عنه النّوم، وحلّ عليه ليل لا نهائيّ لا يعرف ماذا يقول فيه وماذا يفعل، وبقي صاحيا أبدا، فالطعام الجيّد يمنحه فرحا غضّا يمكّنه من موازنة أيّ ظلم تعرّض له في النهار، أو أنه يرى في الطّعام الجيّد رحلة سريعة إلى المطلق لا تستغرق منه وقتا طويلا، ولا يحتاج فيها إلى تفكير ممضّ أو سَعة في الخيال مما يعزّ عليه. إنه يقيس حياته بعدد اللُقم التي تدخل فاه، مثلما كان الشاعر ت. س. إيليوت يحسبها بعدد ملاعق القهوة. إن في الطعام الدسم محاولة لجعل الجسد يتكيّف مع الألم، والدّليل على ذلك يتناول المحكومون بالإعدام وجبات طعامهم بشهيّة عالية لا تتناسب مع ما هم فيه من بؤس حال، ورغم ذلك فهم جائعون حتى في أحلامهم إلى جميع أشكال الأطعمة، وتراهم يأكلون جيّدا ويسمنون وتزداد أوزانهم. آخرون سعداء على الدّوام لأنهم يعتقدون أن معنى الحياة في لذّة الباه، ولا شيء آخر يستحقّ منا التّفكير فيه ولو لحظة. تعرّفتُ على كهل يعمل بعض الوقت في النهار، وما إن يحصل على مصروف يومه، يهرب إلى بيته ليواقع زوجته، ويبقى معها حتى اليوم التالي، عندما يغادر في الصّبح مُكرها في سبيل طلب الرّزق.
الحياة العظيمة تكون عندما يوجد هناك عمل مثمر، كما أن الكدّ في الكهولة يكون أكثر من عمر الشباب، ونتيجة العمل الحتمية هي التعب، والتعب يوقر الروح. رأى أحدهم ليوناردو دافنشي، وقد تجاوز التسعين، وهو يحثّ سيره في الصباح باتّجاه مشغله. سأله: "إلى أين تذهب في هذه الساعة أيها الشيخ". وأجابه الفنّان قائلا: "إنما يذهبُ التلميذُ في الصّباح إلى المدرسة". إن كلّ ما مرّ يعطي للحياة معنى، ويبقى أسماها هو طلب العلم، وهذا ممّا لا يحصّله المرء بواسطة الكتب ودور الدرس فقط، وإنما هو "علم يأتيني من عذاب النّفس" مثلما يقول الفرنسي (أليكسيس سان ليجيه).