لطفية الدليمي
تساءلتُ غير مرّة: لماذا لم يستطع العراقيون أن يكونوا مثال (يابان) أو (ألمانيا) جديدة في الشرق الاوسط؟ ألم يحتلّه الامريكيون ويحدّدوا له شكل الحياة السياسية والدستورية؟ كلّما تناسيتُ هذا السؤال الجوهري ثمّة شيء يحصل ويعيدُ تذكيري به. الذاكرة خزّان ألمٍ لابدّ أن يفيض وجعها مع هذه الشاكلة من الاسئلة التي تدفعنا دفعاً لمساءلة الاسس الجوهرية للمعضلة العراقية التي إستحالت سيراً أعمى في واد مظلم بمواجهة جبل شاهق. القطار العراقي سيتحطّم لامحالة. هذا قانونٌ لارادّ له.
تابعتُ قبل بضعة أيام فيديو قصيراً يتناول السؤال أعلاه. إنتهى الفيديو إلى أنّ كلاً من (العراق) و (أفغانستان) لم يكونا دولة قبل الاحتلال الأمريكي لهما؛ كانا أقرب لشبح دولة محكومة بالعصبيات القبلية التي تُعلي العلاقات القرابية. تساءلت: ألم يكن اليابانيون محكومين بمنظومة عسكرتارية شديدة القسوة توظّفُ حتى طريقة الانتحار اليابانية التقليدية بدلاً من الوقوع في أسر العدو؟ صحيحٌ أنّ الياباني بعد عام 1945 صار غير الياباني قبله؛ لكنّ هاجساً دفعني للتفكّر في هذه الموضوعة.
دعونا ابتداءً نكفّ عن معزوفة (العراقي أبو الغيرة والشهامة والنخوة). لاأريدُ القول أنّ العراقي يفتقدُ إلى هذه الخصال؛ لكنّه يوظفها توظيفاً إنتقائياً بصورة فلكلورية في مواضع بعينها. ترى العراقي مُفْرِطاً في كل شيء: في حبّه وكراهيته، في جشعه وكرمه، في عدوانيته وتسامحه. يمكنُ أن يدعو زائراً أجنبياً خلا جيبه من المال إلى أفخم مطعم وينفق عليه بلا حساب، وفي الوقت عينه ستصيبك الدهشة عندما ترى هذا العراقي ذاته يدخل مع بائعة الخضرة في مساومة شايلوكية منهكة من أجل باقة إضافية مجانية من الكرفس أو الريحان.
يبدو لي العراق أحياناً وكأنّه جماعة من الكائنات العصابية التي تتقاتل على كلّ شيء وبسبب أي شيء. كلّنا تناوشتنا شظايا من هذا العصاب الجمعي الذي فرضته علينا سطوة السياسة مشفوعة بقوة القانون المصمّم لخدمة الساسة. نحتاج كلنا زمناً للتعافي وليس من المجدي التنكّرُ لهذه الحقيقة أو القفز عليها.
أنظرْ إلى الهنود: أمّة تفوّقت على الصين في عدد سكانها الذي قارب المليار ونصفاً من البشر، ولم يزل الفقر شاخصاً في مشاهد الحياة اليومية في العديد من مدن الهند؛ لكنّ معظم الهنود يعملون ويضحكون ويخترعون أسباباً لهذا الفرح. لماذا نذهب بعيداً إلى المثال الهندي؟ مصر مثالٌ أقرب. رغم كلّ الفساد السياسي الذي ضرب الحياة وشجّع نمطاً من الاصولية الدينية الغريبة عن الروح المصرية لكنّ (المصري) يظلّ ذلك الكائن الذي يستخفُّ بمتاعبه ويسخر منها.
نحنُ كائنات يعوزها الاسترخاء. وجوهنا المتصلبة وكلماتنا الصخرية تكشف عن عمق هذا الافتقاد إلى الاسترخاء. الكائن غير المسترخي يفتقد القدرة على التمتّع بمباهج الحياة حتى لو أتيحت له إلى أقصاها لأنّ عقله صار ملعباً مستباحاً لكلّ عوامل الشدّ العصبي ومايتبعه من الانهاك الجسدي والنفسي. من البديهيات أنّ الكائن غير المسترخي لن تُتاح له إمكانية الانجاز العلمي والتقني والفني وعلى كلّ المستويات الاخرى لأنّ عقله وخياله باتا مستعمرتيْن لكلّ ألوان القلق الوجودي التافه غير المنتج الذي يؤججه سوء ظنّ بالمستقبل وبكلّ أشياء الحياة. عندما تتوطّدُ أركان هذه الحالة وتصبح هي القانون السائد سيكون حسّ الكراهية نتيجة طبيعية متوقّعة: كراهية الاقربين والأبعدين، كراهية البلد، كراهية العمل والانجاز بل وحتى كراهية الذات العاجزة لأنها وُجِدت في بيئة مثل هذه. ماأتعس أن يكره الانسان نفسه!!
فصّل الفيلسوف الفرنسي الراحل (هنري برغسون) في كتابه المهم (منبعا الاخلاق والدين) رؤيته في أنّ كلاً من الاخلاق والدين يرتويان من المنبع ذاته. لم يقلْ أنّ الدين هو مايصنعُ الاخلاق، وتلك فضيلة برغسون الكبرى. (أن تحبّ كلّ شيء) هو أصلُ كلّ نسق أخلاقي حقيقي. التخريجة بسيطة: كلّ (من) و (ما) على الارض وفي الكون الفسيح هو صنيعة الرب (أو الإله. لافرق)؛ لذا يتوجّبُ عليك أن تحبّ كلّ صنائع الإله. لاحظوا معي كم تكون الاخلاق نسقاً بسيطاً غير متطلّب عندما نضعها في إطار مقايسة سهلة واضحة غير ملتوية. لكن هل نستطيعُ أنّْ نحبّ كلّ (من) و (ما) على الارض وفي الكون؟ الامر يتطلّبُ تدريباً شاقاً للنفس أحسبُ أنّ عمر الانسان لايكفيه؛ لذا فإنّ المدخل العملي الاوّل هو ترويضُ نفسك على (أن لاتكره) أولاً وقبل كل شيء، وهذا مايتطلّبُ في الاقلّ ثلاثين سنة. قد ترى الكلمات سهلة ميسّرة حين تقال؛ لكنّ التطبيق الجدّي في مواقف عملية هو المعيار الحاسم وبخاصة في بيئة عراقية كلّ مافيها مستوفزٌ وعصابي، وكلٌّ شاهرٌ سيفَهُ ليقاتل أشباحاً في الهواء عندما يعجزُ عن إيجاد أعداء حقيقيين على الارض!!. دعونا لاننسى دوماً: الاخلاق صناعة ذاتية لاتأتي إلّا بمشقة ومجاهدة؛ أما الأنساق الاخلاقية اللاهوتية الجاهزة والمعلّبة فما أيسر مانلتفُّ عليها ونلوي عنقها تبعاً لرغائبنا. أظنُّ أنّ الحال العراقي الحاضر هو البرهان الأجلى.
تمظهرات الكراهية في الحياة العراقية نكادُ نراها ونلمسها لمس اليد في كلّ مرفق وناصية، في السياسة والاقتصاد والعلاقات المجتمعية ظاهرةً جليةً أو خفيةً مستترةً. مايترتّبُ على هذه الكراهية من تبعات ومآسٍ أكبرُ من أن يحصى: التخندقات العرقية والطائفية، سيادة معادلة (نحن) و (الآخرون)، المنطق الصفري في التعامل الصلب مع شؤون السياسة والاقتصاد حدّ أن نخسر كل شيء بدل خسارة جزئية محسوبة ومعقولة، حياة حزبية مرتهنة للعنف والقسوة وغياب المروءة والضمير. سيتناسى بعضُ الكارهين كلّ إنجازات العراق الملكي وسيردّدون أنّ العائلة المالكة جاءت إستيراداً من الحجاز وليست عراقية. ماذا عن مشاريع مجلس الاعمار؟ سيقولون أنه مجلس راعى المصالح الغربية لمجرّد أنّ أمريكياً وبريطانياً كانا في مجلس إدارته، وقد تعاقدت معهما الحكومة العراقية بعقد مدفوع الاجر. عبد الكريم قاسم هو الآخر سيتناسى الكارهون كلّ صنائعه ولن يروا فيه سوى ضابط غير مثقف قتل الليبرالية العراقية الوليدة. ماذا عن قانون رقم 80 مثلاً؟ بهذه الشاكلة من اللامروءة واللانزاهة تنحدرُ مناسيب الكراهية من قلب دوائر صناعة السياسة والاقتصاد حتى تطال الفرد الماكث في بيته والاموات في قبورهم. أظنُّ أن موضوع يوميات الراحل (يوسف الصائغ) واللغط الذي أبداه الكارهون له والمختلفون مع مواقفه مثالٌ نموذجيٌّ على عصابنا الثقافي تجاه شخصية ماعادت تملك حق الدفاع عن نفسها
لم نتعلّمْ فنّ التسويات المقبولة لكلّ الاطراف. نريد كلّ شيء فنخسر كل شيء وتتراكم الاخطاء، وعندما نريد حلحلة هذه الاخطاء نقترفُ أخطاء إضافية أكثر جسامة من سابقاتها وتكبر (كرة ثلج) المعضلات العراقية. أليس هذا توصيفاً دقيقاً لحياتنا العراقية في العقود الستة السابقة على الاقلّ؟
متى سندركُ أنّ أعقد معضلات الحياة، في كلّ الحقول، يمكنُ أن تجد لها حلولاً ناجعة عندما يتراجع منسوبُ الكراهية المعشعشة في القلوب ويلتقي المتخاصمون على كوب شاي في كافيه...!! ؟