ستار كاووش
كل فنان مهم هو بمثابة بطل قومي في بلاده، أقصد في البلدان التي تعرف معنى الفن وتقدّر قيمة الإبداع، حيث تفعل هذه البلدان كل شيء من أجل وضعِ مبدعيها الكبار في أماكنهم الصحيحة، سواء في تاريخ الفن أو حتى في قلوب الناس. خطرت هذه الكلمات في ذهني وأنا في طريقي الى متحف مخصص لأعمال فنان واحد فقط، فنان ساحر بكل معنى الكلمة، لدرجة تجعلني أقول بأنه بالنسبة للكثيرين -وأنا واحداً منهم-
أكثر فنان يحمل جاذبية في كل تاريخ الفن. هذا المبدع العجيب هو الفنان البلجيكي رينيه ماغريت وأعماله التي تحمل سطوة كبيرة ومتعة وخيال وتجعلك تنبهر وأنتَ تتأمل تقنيته، وتبتسم وأنت تتفحص الأسماء التي إختارها للوحاته. يفاجئنا ماغريت بطريقة إختيار موضوعات الرسم، وقيادتنا نحن المغرمين بلوحاته الغريبة كي نكون في النهاية جزء منها، وهو إضافة الى ذلك يشبه لوحاته كثيراً، لدرجة إن صورة الرجل صاحب القبعة السوداء والبدلة الداكنة لا يخلو منها كتاب عن الفن في العالم، إنها صورة ماغريت ذاته التي رسمها مراراً وتكراً، والتي لم تفقد جاذبيتها رغم مرور السنين، بل دخلت حتى في الأفلام السينمائية والاعلانات، وصارت عبارة عن مرادف للرجل الغامض في القرن العشرين.
إقتربتْ خطواتي وسط مدينة بروكسل من المتحف، بنوافذه التي رُسمت عليها مجموعة كبيرة من أعمال ماغريت، حيث بدا المتحف شاخصاً قبالة القصر الملكي. أجِلْتُ بصري على واجهة القصر وأعمدته الرخامية العالية، ثم إلتَفَتُّ من جديد نحو المتحف، فإنتبهتُ لوقوفي بين ملكين، أحدهما ملك بلجيكا الذي يحكم البلاد من هذا القصر، والآخر ملك الرسم الذي ينتصب متحفه في الركن المقابل، وهو ينثر جمال سطوته على كل بلاد الشوكولاته. في مدخل المتحف بانَ جدار واسع كتب عليه توقيع ماغريت بحجم أكثر من عشرة أمتار، وكإن الفنان يرحب بمن يزور المتحف بهذه الطريقة الفريدة. أدخل المتحف فأجد نفسي وسط عالم جديد واستثنائي، عالم بديل لعالمنا الذي نعيش فيه، وإن صح القول يمكنني تسميته بالعالم الشعري الذي يطير بك على أجنحة الخيال. أتابع الأعمال وأنا أبتسم، أمضي أكثر فأشعر برغبة بالضحك، ثم اقهقه لاشعورياً وسط نظرات الزائرين الذين يكتمون ضحكاتهم أيضاً. أتوقف أمام لوحته التي رسم فيها باباً خشبياً في وسطه فتحة كبيرة بهيئة إنسان، وقد ثُبِّتَ بجانبها عنوانها الذي يقول (الجواب غير المتوقع)، لتظهر امرأة عارية لون جسدها بما يشبه عروق الخشب وقد كان عنوانها (الإكتشاف)، مضيتُ في المتحف لتستوقفني واحدة من أجمل لوحات ماغريت وهي (لاعبو الأسرار) ويظهر فيها رجلان بملابس بيضاء وكإنهما يسيران أثناء النوم، يمسك احدهما عصا كبيرة فيما تطير فوقهما سلحفاة ضخمة، وقد تحولتْ الاشجار المحيطة بهما الى أرجل طاولات أو كراسي، وإحتلت ستارة حمراء كبيرة الجانب الأيمن من اللوحة، لتجعل العمل كإنه عرض مسرحي. أسر وسط الأعمال وأتوقف أمام لوحة أخرى تحولت فيها النباتات الى أشكال طيور، وحملت عنوان (جزيرة الكنز). أمضي في عوالم ماغريت، لتظهر لي من بعيد لوحة (العش) التي طغى عليها اللون الأزرق، حيث عش الطائر فوق سياج حجري فيما تحول الجبل في خلفية اللوحة الى طائر. لا يخلو المتحف طبعاً من تفاحات ماغريت الضخمة ولا من قبعته الشهيرة حيث توزعت مجموعة من هذه اللوحات بين كل ثنايا المتحف. مضيتُ وسط صالات المتحف، لأصل الى عمله الفريد الذي إختصر فيه سريالية القرن العشرين وبانت فيه عبقريته وروح الدعابة التي يمتلكها، وأقصد لوحته (الليل والنهار) حيث رسم مشهداً ليلياً لبيت تحيطه الأشجار وسط الظلمة الكالحة، وفي ذات الوقت رسمَ الخلفية بسماء مشرقة في وضح النهار، وهكذا ظهر النصف الأسفل من اللوحة كإنه ليل مظلم، فيما أشرقَ نصفها الأعلى كإنه نهار وسط سماء زرقاء تتخللها بعض الغيوم البيض. كل لوحة هنا تجعلك تفكر مرات ومرات لتعرف جانباً من أفكار هذا الرجل صاحب التقنية الفريدة. ضم هذا المتحف أيضاً، الكثير رسوماته القديمة وصوره والكثير من التذكارات، كذلك باكورة أعماله كرسام، حيث أعمال البدايات التي غلب عليها الطابع التكعيبي قبل أن يجد اسلوبه وعوالمه الخاصة، كذلك هناك جناحاً خاصاً لمجموعة من لوحاته التي تأثر فيها بتقنية رينوار، والتي لم تتفاعل معها المتاحف ولا مقتني اللوحات وقتها، ليعود لتقنيته وأفكاره ومساحته التي عُرِفَ بها.
خرجتُ من المتحف ببنايته المكعبة التي تشبه من بعيد علبة للهدايا، وشعرت بأني إنسان آخر، أبحث عن علاقات غرائبية بين الأشياء والتفاصيل التي أراها في الشارع، وابتدأ الأمر عند أول خطوة خارج المتحف، حيث بقيتُ ملاصقاً له وأنا أتأمل المرايا التي توزعت على جدرانه الخارجية، هذه المرايا التي قُطِعَ شكلها الخارجي على هيئة ماغريت ذاته، بقبعته الشهيرة، فوقفت أمام المرايا وصورت نفسي بهيئة ماغريت الذي ترك سحرة داخل وخارج هذا المتحف الذي يعتبر جوهرة بروكسل وأحد أماكنها الثقافية والابداعية التي لا تخطؤها العين.