حيدر المحسن
انتبهتُ اليومَ إلى أنّني لا أسكنُ في بغداد، ولا في إزمير أو السليمانية (وهي المدن الأثيرة لديّ) ولا حتى في بيت أهلي في العمارة، عندما كتبتُ قصائدي وقصصي كلّها، بل كنتُ أجلسُ لصقَ نافذةٍ تطلّ على الزّقاقِ في محلة القادريّة في بيت عمّي في الثمانينات، وأفكر أحيانا في أن حياتي توقّفت في تلك الوهلة من عمري، وما زلت أواصل العيش في تلك التجربة، وليس في مكان آخر أو زمن آخر...
هل أقول إني التقيتُ نفسي في ذلك المنزل؟ إن فكرة إلباس هذه التجربة كلمات عاديّة تنزع عنها السّحر كلّه، لأن معيشتي في هذا البيت كان الحدث الأكثر زخما في سنوات يفاعتي، وأكثر ديمومة، ولا تزال تسكنني السعادة التي عشتها، والتي سوف تكيّف حياتي، ربما إلى الأبد.
انتقل أهلي في ذلك العام من مدينة العمارة إلى العاصمة بغداد، وكان الأمر صدمة قويّة بالنّسبة إليّ، وبعد أقلّ من سنة أعلنتُ للجميع أن الحياة في العاصمة لا تروق لي، وصار الاتفاق أني أعود إلى مدينتي، وأحلّ ضيفا في بيت عمّي، ولا سبيل إلى مغالبة المحتوم. كان الطريق من بغداد إلى العمارة يبدو طويلا لا ينتهي، وأنا أقصد الجنة حيث كلّ شيء فيها عذريّ بالنسبة إليّ، وسوف يحتفظ بهذه الصّفة حتى النّهاية. من يزورها مرّة فسوف تتغيّر حتما حياته، بسبب كمية العاطفة التي تدخل وجدانه، وتصيّره كائنا مختلفا.
كنت لا أخرجُ من البيت، ولا ألتقي بأحدٍ. أيامي مترعةٌ في الليل والنهار بالشعر والقصة والرواية، وأذهبُ وقتَ العصر إلى شاطئ دجلةَ، أرقبُ الشّمسَ وموج النّهر، أتنفّس الهواءَ خفيفاً مندّى، وأندسّ بين الموج، الدّقائقُ تمضي والنّهرُ على حالِهِ، وعيشتي الطّيّبة على حالها. أعود عند العشيّة إلى ركني في المنزل الذي أدعوه منزل النّساء، وهنّ بنات عمي: نضال ونوال ومنال، صبايا في عمر الزهور مع أختهنّ السيدة فتنة، مديرة مدرسة الشروق الابتدائيّة، امرأة قوية بطريقة نادرة وعجيبة ويوحي مظهرها بالنّفوذ والهيبة، ولا يمكن معرفة سنها لأنّها لم تتزوّج وكانت تقوم بدور الأمّ والأب لهنّ، فقد كنّ يتامى، ويمتلكن بالإضافة إلى ذلك أياديَ متعبةً من فرط البداهة ووجوها مليئة بالصّفاء والذّكاء، ربما صفاء سنين العزلة والحياة الكتيمة التي فرضتها السيّدة فتنة عليهن، وتمكّنت من إنشاء ما يشبه القلعة المنيعة، لا يبلغها أيّ صوت من الخارج، ويؤدي أقلّ ما يؤدي إلى حرق أعمار الساكنين فيها. عيشة طيّبة راضية كانت تحياها السيّدة، ذات الوجه المعبّر بشقرته ونضرته، وبالشّلل الذي أصاب وجهها في أيام شبابها، وترك سيماه بصورة انتباه دائم وغموض في الهيئة. عينان خضراوان عميقتان، وصوت حادّ كنتُ أخال مصدره صورة عمّي المعلّقة على الجدار، وجهه يحمل نفس ملامح ابنته الكبرى؛ فتنة، والفرق الوحيد هو الكوفيّة والعقال اللذان يتوّجان رأسه. إن الرخام والشمع يذوبان مع السنين، لكنّ الأخت الكبرى استطاعت، واصلةً عمرا بعمر، أن تحتفظ بنضارة وجهها، ورغم الصّرامة التي كانت تقود بها أمور المعيشة كافة، لم تكن ناحية في المنزل لا يلمس الزائر فيها مكانا لتعبيرات الحنان، وناحية أخرى تُعزف فيها موسيقى تعبّر عن رقّة قلبها. كانت أمّا لنا نحن الأربعة، أنا وبنات عمّي الثّلاث، تعلّمنا منها كيف نعبّر عن أنفسنا بتعقّل، وأن نخضع كلّ شيء لضرورات الحياة. نظرة سوداء واحدة منها تجمّد الدم في عروق الصّبايا الثّلاث، وكانت تعاليمها تقضي أن يرقدنَ مبكّرا، ويستبقنَ أوامرها باليقظة عن واجباتهنّ في اليوم الجديد، فيما يخصّ الدراسة وتعلّم فنون الخياطة والطّبخ والبسْتنة وغير ذلك.
في البيت حديقة فسيحة ومتشابكة الأشجار، العشبُ ربيعٌ دائمٌ فيها والأزهار موسيقى والنّسيمُ مولّهٌ والظّلال آيات، كما لو أن ذكرى منزل النساء لا تزال فيّ، وسوف تظلّ ترافقني دائما، لأن صورته تهشّمت بفعل السنين فوق قلبي، وصار كلّ ركن فيها فلذة منّي.