طالب عبد العزيز
ستبدو بعض المقولات الدارجة معينا لنا في فهم الحياة السياسية في العراق، مثل مقولة: "الناس على دين ملوكهم"، أو ما جاء في الحديث المزعوم: " كَيفَمَا تَكُونُوا يُوَلَّى عَلَيكُم"! "، أو قول المتنبي:" وَإِنَّما الناسُ بِالمُلوكِ وَما. تُفلِحُ عُربٌ مُلوكُها عَجَمُ". ويبدو أيضاً أنَّ الناس في العراق خاضعون بالتمام الى المقولات الغبية هذه من خلال إصرارهم على القبول بأنموذج الحكم الحالي، الذي تأسس على أوجاعهم منذ عقدين من الزمان.
والغريب أنَّ الطبقة الحاكمة الدينية تحديداً تصرُّ على تسويق مقولات مثل هذه بوصفها مأثورات شعبية، نابعة من روح الدين واخلاق الأئمة والعلماء والمجتمع، وهكذا يستثمر السياسي الحاكم السيء حسنَ نوايا اتباعه المخدوعين به، ليستمر متبوعاً لا سبيل الى خلعه، لأنه آتٍ من نسيج الفكرة المقدسة والمعتقد الديني، وإن أخطأ فقد تأول وأبيحت له الجرائم كلها. ومع الخلاف الشرعي في قضية التصدي للحاكم الظالم والذي تتبناه بعض المذاهب وتركن اليه إلا أن مقولة الإمام النووي: "وأمّا الخروج على الحاكم الجائر وقتاله فحرامٌ بإجماع المسلمين؟ وهي الفاعلة عند الغالبية، أو بمعنى ما: فأنَّ الخشية منه، ومن العقاب الذي يتأتى منه في الدنيا، لا محالة واقع، على وفق الحق الممنوح له، مع صحة الخشية من العقاب الرباني المنتظر من معصيته هناك.
ستظل المقولات هذه حاكمة ومفصلية في الحياة السياسية العراقية بوجود الحاكم السافل والناخب الجاهل، وستستمر الكارثة طالما أصرَّ الحاكم على استبداده وظل الناخب على جهله، وواضح أنَّ المتوالية هذه وليدة شرقنا العربي بامتياز، وهناك مؤسسات دينية ونظم اجتماعية تغذي طرفي المعادلة، ولا سبيل لحدوث التغيير المؤمل، ذلك لأنَّ مهيمنة الدين المتشظية على السنة ملوك الطوائف وأحزاب الاسلام السياسي ومنظومة المجتمع المتخلفة (العشيرة) ماتزال فاعلة في الحياة، من خلال الاصرار على أغفال دور القوانين المدنية في تسيير وتغيير عجلة الحياة.
الغالبية من ابناء الشعب العراقي متيقنة بأنَّ الطبقة السياسية الحاكمة هي الاسوأ طراً، لكنهم لا يعترفون باختيارهم الخطأ ووسوء ما أقدموا عليه بانتخابهم لها، فيما هناك جمهور عريض مازال ينظر لوجودهم عبر قناة منفعته الشخصية، فهم أولياء نعمته قبل كل شيء، إذا ما علمنا بأنَّ وظائف الجيش والداخلية والحشد والكهرباء ووو إنما تتم عبر قنوات الاحزاب الحاكمة، التي تمنح الوظائف مقابل الولاء والانتخاب، وهناك طابور مازال واقفا ينتظر دوره في وظيفة ما، ومن يقتفي أثر تأخير إقرار الموازنة سيعثر على الحصص التي تطالب بها الأحزاب ضمانة لناخبين جدد.
انفردت جماهيرُ تشرين -التي قُمعت من هؤلاء- عن القاعدة هذه، فلم تعمل على وفق آلية القبول بالحاكم الجائر، إنما خرجت عليه، فكانوا الفرقة الثورية الوحيدة بين صفوف الشعب، ولم تعتدْ أفواجُهم بالماثورات الشعبية، فكانوا خير ممثل للوعي السياسي الجديد، ولولا القمع الذي تعرضوا اليه، وانقسام قياداتهم، لولا خيانة الجماهير الاخرى لهم لتفلت العراق من قبضة الحاكم (المسلم) الجائر وانتقلت البلاد من حكومة الهزال والخداع الشعبي الى الحكم الحق المديني، والمبني على اسس المواطنة والهوية العراقية الواحدة، ولأنتفت الحاجة الى المأثورات الساذجة تلك.