لطفية الدليمي
رائحة المال تملأ الأجواء في كلّ مكان في هذا العالم. ألم تشمّها بعدُ؟ إنْ لم تشمّها فهذا يعني واحداً من أمريْن: حاسة الشم (الفكرية) لديك معطّلة، أو أنك لاتريد الاعتراف بسطوة المال ترفعاً عليها أو هربا من مواجهة قوانينها الصارمة.
ماهو المال؟ إنه لاشيء بذاته كما يقول المؤرّخ يوفال نوح هراري. هو أقربُ لأن يكون تراباً إفترضنا فيه أنه مصنوع من مادة مقدّسة، ثمّ مضينا نقدّمُ له كلّ فروض الخضوع والطاعة. المال هو (العجل الذهبي) لعصرنا، وكلنا خاضعون لقوته الرمزية وسطوته المادية. قلْ ماتشاء أنه (وسخ دنيا)؛ لكنك ستسعى إليه وتجعله مطمحاً لك. عبارة (وسخ دنيا) الفلكلورية لطالما أضحكتني لفرط سذاجتها والمراوغة المضمرة فيها. يرى (فلان) المال وسخاً مطلقاً في هذه الدنيا؛ لكن جرّبْ أن ترى سلوكه في تعامل ينطوي على عنصر مالي. دقّقْ في سلوكه – مثلاً - وهو ينتظر حصّته من مال موروث عن أبيه: هل سيراعي حقوق أخوته وأخواته ولن يتحايل عليهم؟ ليس كالمال مايكشف خفايا النفوس ومخبوءاتها الحقيقية. في أيام الحصار الظالمة سمعنا حكايات مرعبة عن جرائم قتل بسبب خلافات على سيارة فولكس واكون (برازيلي) متهالكة. هذه بعضُ مفاعيل سطوة المال. ربما الكثرة من البشر في الاحوال العادية قد تسلك سلوكاً في حدوده الدنيا من المقبولية العامة؛ لكن عندما يحضر المال وتُشمُّ رائحته من بعيد تتغيّرُ قوانين اللعبة ولايعود المال (وسخ دنيا) بل السيّد المطاع بلا منازع. عندما يكون المال بعيداً عن المنال لن يكفّ البشر عن إعلاء شأن المناقبية الاخلاقية وفضيلة الزهد وعدم تلويث اليد بمفاسد الدنيا الفانية؛ لكنّ هؤلاء أنفسهم سيتحوّلون وحوشاً ضارية جشعة لاتشبع متى ماجرى المال بين أيديها. أليس هذا حال العراق الحالي ومنبع كلّ أمراضه القاتلة؟ كانت إحدى مقدمات البرامج التلفازية التي تستهوي اللاهثين وراء النميمة الفنية شجاعة وصريحة عندما أخبرتها إحدى الفنّانات (الزاهدات جداً!!!) بأنها ترى المال وسخاً (زبالة على حدّ تعبيرها الاصلي) فأجابتها مقدّمة البرنامج بلهجة مصرية متغنّجة صارت (ماركة) مسجّلة لها:"سيّدتي: أنا أحبّ هذه الوساخة وأركض خلفها ومستعدّة أن أحفى من أجلها. من فضلك إذا أردتِ التخلّص منها إعطيني بعضها أو كلها إذا أحببتِ وسأظلّ طيلة حياتي أبوس رأسكِ!! ".
لن أقول أنك ستلهث وراء المال دوماً؛ لكنْ من المؤكّد أنك ستلهثُ وراءه إلى حدود تكفي للإيفاء بمتطلبات عيشك؛ فليس بالخبز وحده يحيا الانسان. متطلباتُ عيشك وطبيعةُ حياتك هما مايحدّدان نظرتك للمال وبالتالي يحدّدان – بالتبعية - سرعة لهاثك وراء المال. لهاثُ المرء وراء المال هو قانون تفرضه الضرورات المجتمعية مثلما يصلح أن يكون مقياساً حقيقياً يمكن منه معرفة السلوك الحقيقي للإنسان وطبيعة نظرته لنفسه وللآخرين: كم حجمُ الايثارية في نفسه؟ ماطبيعة العناصر الصراعية التي تحرض دوافعه في الحياة؟ كم يرى أبعد من أنفه؟ هل يريد (الكعكة) له وحده؟
قلتُ أنّ رائحة المال في كلّ مكان، ويمكن شمّ هذه الرائحة في مواقف معينة قد نغفلُ عنها في العادة. قرأتُ قبل بضعة أيام منشوراً فيسبوكياً لصديقة عزيزة إستجلب إنتباهي لفرط ذكائه في الكشف عن حقيقة قد تغيب عنا. تقول الصديقة أنها كلّما أقرضت صديقاً مبلغاً من المال فإنّ مايحصلُ لاحقاً هو أن يتلكّأ في إعادة المبلغ، ثمّ يحصل مع الوقت أن يتعامل مع المال وكأنه حقّ مشرعنٌ له حدّ أن يتضايق ويتململ لو أردت كسر حاجز الخجل ومطالبته بحقك: يرى الامر وكأنّك خرقت واحدة من قواعد الصداقة الحقيقية!!. تنتهي الصديقة إلى أنك ستحصل على مالك بعد (شلعان قلب)، وبعدها يتحوّل صديقك الى خصم.
المال هو صانع اللذّات – إلى حدود ما في أقلّ تقدير – مثلما هو مفجّر الخصومات. هل يستجلبُ المال بعض اللذّات؟ نعم بالتأكيد. بالمال تبتاعُ كتاباً ورقياً كان أم ألكترونياً، وبه تستطيعُ السفر ورؤية أماكن جديدة، وبمعونةٍ منه تستطيعُ إتيان افعال تستعصي من دونه. لكن لكلّ شيء حدودٌ طبيعية. لكلّ لذّة سقفٌ تبلغ عنده اللذة حدّها الاقصى (المنفعة الحدّية بلغة الاقتصاد الكلاسيكي). بعدها لن ينفعك المال بشيء، سيكون فائض حاجة. هذا بعضُ مايعانيه المليارديرات في هذا العالم. الانسان العادي ينامُ ويصحو على تمنيات قد يجلبها المال؛ لكن ماذا لو تحقق لك من المال مايغنيك عن التمنيات والاحلام أستبطلُ الاحلام لديك؟ ربما تتّخذ الاحلام شكلاً جديداً يقاربُ التطلعات الفكرية العالية ويبتعد عن الحسّية المفرطة.
الغربيون كانوا على الدوام أكثر شطارة منّا في التعامل مع المال. لم يروه (وساخة دنيا) بل جعلوه وسيلة للإجتهاد وفقاً لقوانين تنافسية ضارية. هم يرون ضرورة المساواة بين الجميع في تملّك المال في حدود دنيا تكفي للإيفاء بمتطلبات العيش الآدمي، ثمّ بعد خط الشروع هذا أنت وقدراتك وعملك واجتهادك هي التي ستحدّدُ مافي جيبك من المال. هذا هو إطار الصورة العامة، وفي كلّ صورة عامة شوائب حتمية؛ لكنّ هذه الشوائب لاتجيز قلب الحقائق أو محاولة تشويهها القسري لغرض شيطنة الغرب. بعضُ هؤلاء المشيطنين للغرب من الطفيليين الذين ينتفعون بأعطيات الغرب هم كَمَنْ يأكلُ في طبق ثمّ يبصق فيه ناكراً الجميل. الفيسبوك ثانية سيكون ميدان الاختبار الحقيقي لهذه الفكرة. كتب (أحدهم) منشوراً يندّدُ فيه بالالمان الذين إكتفوا بمنحه تقاعداً مقداره (85 يورو فقط) جزاء عمله لسنتين في ألمانيا ورفضوا إضافة خدماته (المدّعاة) في بلده الاصلي. يريد هذا من الالمان أن يحسبوا له تقاعداً عن خدمات لم ينتفعوا منها. هل رأيتم إفتئاتاً أغرب من هذا؟ في مصادفة جميلة إلتقيتُ قبل بضعة أيام في عمّان أحد أقاربي المقيمين في ألمانيا، وبين أحاديثنا الكثيرة سألته: هل تكفي 85 يورو لمعيشة شخص في ألمانيا؟ وحكيتُ له الحكاية. ضحك طويلاً وأخبرني أنّ هذا الرجل لايقول الحقيقة. هناك حدّ أدنى للتقاعد في ألمانيا، ولو كان تقاعد الشخص أقلّ منه فإنّ القانون يلزِمُ الحكومة بمساعدة الشخص ليبلغ تقاعده الحد الادنى، فضلاً عن دفع إيجار شقته والتكفّل بمصاريف مجموعة متنوّعة من الخدمات المجانية في التنقّل والعلاج.
(الامريكان مكروهون؛ لكنّ أخضرهم حلو): هذا ماصرّح به أحد ساسة عراق مابعد 2003. الاخضر هو الدولار بالطبع. هذه هي الحقيقة التي يتعامل معها حتى من يدّعي كراهية أمريكا أو أنّ المال محضُ وساخة دنيا.
عجباً لهذه الوساخة التي قد تحيي وقد تميت الأمم جميعاً، وقد تحيي وتميتُ بعض البشر وليس جميعهم على كل حال.
المال هو مشعلُ الحروب. التصارع على المال هو أصل الحرب المشتعلة في أوكرانيا والتي يسعى طرفٌ فيها لإبطال الهيمنة الدولارية على العالم. المال هو ماسيرسمُ معالم العالم القادم بعد نهاية هذه الحرب.
أقول أخيراً: للمال سطوةُ فرض رائحته على العالم؛ ولكنّك لست مرغماً على ملء رئتيك بها إلّا بمقدار مايديمُ حياتك. نكران الحقيقة لن يفيد مثلما أنّ التعالي عن رؤية الواقع تحت لافتة طهرانية متسربلة بمقولات شعاراتية فلكلورية لن يفيد أيضاً. وحده الحب الحقيقي هو الفضاء الذي لاتشمّ (أو لاتكاد تشمُّ) رائحة المال فيه، وكلّ ماعداه فضاء مشبعٌ برائحة المال النفّاذة.