نجم والي في كل عام وفي الحادي عشر من نوفمبر يقف البريطانيون دقيقة حداد يتوقف خلالها العمل في كل مجالات الحياة، إجلالا منهم وتقديرًا لنهاية الحرب العظمى (إنتهت الحرب في الساعة الحادية عشرة من يوم الحادي عشر من نوفمبر عام 1918.
بهذا الشكل يعبر البريطانيون عن تقديرهم وتبجيلهم لضحايا نزاع حربي لا يعتبره أغلب الذين شاركوا فيه منهم نزاعهم، برغم أنه كلف حياة نصف جيل. وفي هذا التاريخ "آرميستيك دَي" من كل عام يقدم العاملون في فريق "نو مانس لاند"، والذي أخذ على عاتقه مهمة القيام بعمليات الحفريات الخاصة بالجيش البريطاني، تقريراً عما أنجزوه في ذلك العام. يتركز عمل "نو مانس لاند"، والذي هو خليط من خبراء عسكريين وخبراء بعلم الآثار، بالبحث عن رفات جميع أولئك الجنود الذي سقطوا في ساحات المعارك وضحّوا بحياتهم في سبيل التاج في الحرب العالمية الأولى، لكن ظلت عظامهم مرمية ومهملة في الخنادق. ولا يكتفي أفراد الفريق هذا في عملهم بمعرفة شروط الحياة اليومية التي عاشها الجنود في خنادق الحرب آنذاك. فريق "نو مانس لاند"، يهمه أكثر: العمل على منح كل أولئك الجنود المجهولين الذين يُعثر على جثثهم في الخنادق السابقة هوية وبيوغرافيا، لكي لا يلفهم النسيان. حماس الفريق هذا وطريقته في العمل على تثبيت تاريخ خنادق الحروب ومقابر الجنود، هما دليلان على شعور الارتباط العميق الذي يكنه البريطانيون حتى اليوم لأولئك الذين سقطوا في "الغريت وور" (بريطانيا العظمى، إذن يجب أن تكون حربها عظمى أيضا!). وحسب ما رواه بعض العاملين في الفريق، بإتهم كلما عثروا على قبر لجندي مجهول كلما استحوذ عليهم شعور خليط. فمن ناحية: إنه لأمر مفرح النجاح في ذلك، من غير المهم إن كان الجندي تركيا أو بريطانيًّا، ألمانيًّا أو فرنسيًّا، لأن عملهم بالتحقق من هوية الشخص يبدأ في تلك اللحظة، لحظة عثورهم عليه، فقط عندها يمكنهم الإتصال بعوائل الجنود وإعلامهم بأن من الممكن إقامة مراسيم دفن محترمة لذويهم الذين كانوا حتى لحظة عثور رجال الوحدة عليهم والتعرف على هويتهم، مفقودين بالنسبة إليهم. لكن من ناحية أخرى، إن العثور على عظام بشرية، تُركت في قبورها سنوات طويلة مهملة، هو دائمًا أمر مثير للمشاعر، وغالباً ما يبعث على عدم الإرتياح أيضًا. ومن أجل التعرف على هوية المفقودين يجمع أفراد الفريق كل ما كان مدفونًا مع الجنود، من العلامة المعدنية التي تلمع على الصدر والتي تحمل رقم الجندي وختم الكتيبة التي قاتل فيها مروراً بكيس الخبز الصغير وعلب السردين وخراطيش الطلقات إلى خرق ودفاتر الرواتب ومنديل البدلة العسكرية مع منديل تلميع البسطال، بكلمة واحدة العثور على كل ما يمكن أن يساعد عالم آثار ومؤرخ عسكري على وضعه في مكانه الصحيح مع بقية عظام الجنود المرمية هناك، لكي يعيدوا تصنيفها وكسبها هوية معينة. حتى الآن ظلت نجاحات الوحدة العسكرية هذه محدودة، لأن القيام بتلك المهمة ليس أمرًا سهلا، ففي الحرب العالمية الأولى بالذات وخصوصاً في خنادق الحرب التي إمتدت بين بلجيكا وشرق فرنسا، أصبحت القاعدة السائدة: الموت بدون وجه أو إسم، الحرب الشاملة جعلت ضحاياها يتحولون إلى مجهولين، لم تسرق منهم حياتهم وحسب، إنما هويتهم، شوهتهم إلى حد عدم التعرف عليهم. موتى الحرب هؤلاء الذين لم يتبق منهم في كل الأحوال غير بقايا مرعبة، هم في المحصلة قطع لحم مثرومة وقطع عظام تُعلن عن وجودهم، أما العلامات المعدنية المرقمة التي لمعت راقصة على صدور كل واحد منهم والتي كانت بالتأكيد سهلت بالتعرف على هويتهم، فكانت متناثرة في كل مكان، وهي العلامات المرمية هذه التي جعلت هؤلاء يحملون لقب: "المفقودين".الإصطلاح مفقود يشير إلى قلة حيلة إمتزج فيها شعور بالأمل، الأمل الذي يقول لنا، بأن المفقود ضاع فقط وسيظهر مرة أخرى، في يوم ما، سيظهر وإن تغير بعض الشيء. الشخصيتان النموذجيتان اللتان تركهما لنا الأدب في وصف هذا النمط من الأشخاص، عوليس وروبنسون كروسو واللذين عادا بالملابس الممزقة والهيئة المجهضة، أرادا إقناعنا بأمل العودة "للبيت اليوم أو لاحقاً"، بل جعلوا الأمل هذا يتحول إلى حقيقة. لكن تلك لم تكن القاعدة في كل الأحوال. ربما يصح ذلك في الحياة اليومية، في بعض الحالات الفردية، عندما نقرأ في مكان ما عن أطفال يختفون دون ترك أثر أو عن آباء يتركون عوائلهم، يختفون لكي لا يدفعوا نفقة لأطفالهم، لكي يحرروا أنفسهم من الواجبات التي عليهم القيام بها إزاء عوائلهم، لكن في أزمان الحرب والديكتاتوريات يتحول "المفقود" إلى ظاهرة بالنسبة للذي اختفى دون عودة، وعلى الأغلب هي تأكيد على موت المفقود الذي رغم ذلك لم يُبت به حتى الآن، عن طريق العثور على جثته مثلاً، إنها دفن بلا وداع، أو موت بلا دفن، إذا شئنا ذلك. هذا ما يجعل ذويه يواجهون فراغاً من الصعب تحمله، لأنه كلما كان حزنهم أكثر ألماً كلما ظل بلا عزاء، لأن المفقود يرفض تقبل طقس الوداع، لا مكان له، لا قبر، يستطيع المرء زيارته، للتفكير به. من يُفقد لا يترك شيئاً وراءه أكثر
منطقة محررة ..المفقودون.. وداع من دون دفن..موت من دون وداع
نشر في: 10 أغسطس, 2010: 05:21 م