ستار كاووش
في البلدان التي تهتم بتاريخها، تكون المتاحف مثل الأجيال التي تتوالى بعد بعضها، تماماً كما يتناوب الفنانون أيضاً بأجيالهم المتعددة التي لا تريد أن تتوقف، جيل بعد جيل، وتيار تلوَ آخر. هكذا تتراكم الأعمال الإبداعية وتنمو أكاديميات الفنون وتؤَسَّسُ المتاحف وصالات العروض.
وتُدفع الأموال الطائلة من أجل إدامة هذه التقاليد، وإبقاء هذه الخطوات سائرة في طريق صنع الجمال الذي هو مرآة لروح أي بلد يمنح إهتماماً لائقاً بالفن والفنانين. فحتى بعد أن تتوقف حيواتنا عند نقاط مختلفة ويذهب الجميع الى مصائرهم، يبقى الفن هو الشاخص الحي والدليل الذي يشير الى الروح الحية لهذه البلدان.
أنا في طريقي الآن لمتحف (فناني نهاية القرن التاسع عشر) وسط مدينة بروكسل التي تتنفس الفن والجمال والابداع الذي يداهمك في كل زاوية وبناية ومنعطف، فتعرف طريقك لأي متحف وأي إتجاه في الرسم تود الإطلاع عليه، لا تبعدكَ عن ذلك سوى بضع خطوات وتذكرة للدخول، لتجد نفسك وسط عالم من السحر الذي تركته أجيال متعاقبة. لقد خصصت مدينة بروكسل هذا المتحف سنة ١٩٠٠ كي يضم فنون وابداعات نهاية القرن التاسع عشر، الذي يعتبر المنعطف الكبير في تغيير الفن وفتح طرق متعددة سارت فوقها تيارات ومدارس وإتجاهات تفرعت من شجرة الفن الكبيرة وأثَّرَتْ في كل العالم، حين كانت بروكسل مركزاً إبداعياً مرموقاً ومؤثراً بسبب موقعها الجغرافي المدهش الذي يتوسط باريس وأمستردام وبرلين ولندن. وظهرت فيها الكثير من ابتكارات الرسم والعمارة والشعر والتصوير الفوتغرافي والأزياء والأوبرا والموسيقى. يحتوي هذا المتحف الإستثنائي على لوحات ورسومات مائية وتخطيطات ومنحوتات ومطبوعات وصور وغيرها الكثير مما يتعلق بفنون نهاية القرن التاسع عشر وبعض السنوات التي تلت ذلك. وهذا المتحف يقوم بتغيير معروضاته دائماً، كي لا تتعرض الأعمال للضوء كثيراً، وخاصة الأعمال التي رُسمتْ على الورق، لذا يقوم بإستبدال المعروضات كل ستة أشهر تقريبا.
دخلتُ المتحف لأرى ما يحتويه من أعمال الكبار، وفي الممر الفاصل بين قطع التذاكر والوصول الى صالات المتحف إنفتح ممر طويل ومضيء وبسقفٍ مقوس، يسمى أصدقاء المتحف، كتبت على جدرانه وسقفه أسماء آلاف الرسامين الذين غيروا تاريخ الرسم بإبداعهم ورؤاهم وإبتكاراتهم الفنية. ويمكن لأي شخص أو زائر أن يدفع -إن أحب ذلك طبعاً- أي مبلغ بسيط وفي أي وقت يشاء، حتى لو كان يورو واحد، لتُجمع هذه النقود وتُمنح لعمال المتحف والمتطوعين وبعض أعمال الصيانة، وبذلك يشعر الناس بأنهم أصدقاء حقيقيون للمتحف ومساهمون فيه بطريقة ما. فى الصالة الواسعة في مقدمة المتحف ظهرت لوحة كبيرة جداً للفنان كونتستاين مونتالد، وهي بعنوان قارب النموذجية، بمناخها الشعري حيث تعيدنا هنا الى المدرسة الرمزية المليئة بالغموض والأسئلة. مضيتُ بين الصالات المكتضة بالفن، فوجدتُ نفسي أمام أعمال واحد من أشهر الفنانين الجلجيكيين، وهو جيمس أنسور، والمفاجئة هي ان اعماله المعروضة هنا تختلف بشكل كامل عن لوحاته التي عُرِفَ بها والتي تمثل الاقنعة والمشاهد التي بدت كإنها مسرحية، في لوحاته هنا أثبتَ أنسور بأنه ملون عظيم حقاً. أتأمل لوحات المتحف وأتوقف قليلاً عند لوحة تنقيطية غاية في الإنسجام، تعود للفنان هنري فان دي فيلده، وتظهر فيها فتاة ترتق قطعة ملابس، تكوين اللوحة متوازن ويريح البصر حيث تنشغل الفتاة بعملها كما إنشغلَ الرسام بوضع آلاف النقاط الصغيرة على قماشة الرسم. على جدار خاص عُلقت مجموعة من أعمال الفنان بول غوغان، منها بورتريت سوزان التي بَدَتْ بجسدها الممتليء، نظرتها الساهمة، ملابسها المزخرفة وظفيرتها السوداء التي مالت فوق صدرها، مثالاً للرمزية التي إشتهرَ بها غوغان. وبجانب هذه اللوحة برزت لوحة غوغان المسيح الأخضر، حيث إنشغلتْ مجموعة من النساء في إنزال جسد المسيح المصلوب، وفي الخلفية يظهر حقل وبحر في مناخ غرائبي. وعلى الجدار المقابل إنبثقت لوحة تنقيطية للرسام الباريسي بول سينياك، الذي إرتبطَ هو وغوغان بصداقة عميقة مع فينسنت فان خوخ، وقد تلألأت لوحة سينياك كإنها جوهرة حيث لمساته التي تشبه قطع الموزائيك الملون. لا يمكن أن يخلو المتحف طبعاً من أعمال عباقرة آخرين توقفتُ أمام أعمالهم، أتأمل التقنيات والمعالجات والتكوينات المبتكرة، مثل لوحة فولار التي يظهر فيها صبيان، والتي رسمها برقشات متحركة وبقع متداخلة من اللون، ولوحة المرأة ذات العقد الأصفر للفنان ريك فاوترز، والذي رسمها بلمسات سريعة، وفيها تعمد أن يترك ماساحات صغيرة هنا وهناك من الكانفاس الأبيض، كي تشع اللوحة وتبدو متحركة. تابعت بمهل كل لوحات المتحف، وقرَّرتُ أن أُنهي جولتي بالعودة الى فنان أحبه كثيراً، وأقصد بيير بونار، ولوحته التي رسمَ فيها امرأة عارية وسط الضوء الذي يشع من النافذة، حركة فرشاة كإنها موسيقى، حيث تتداخل الألوان بإنسجام وتنتشي مع بعضها، كما تنتشي المرأة التي تظهر في اللوحة وهي تقف بثقة وتستقبل يومها الجديد كما تستقبل الضوء القادم من النافذة.
تركت ضوء بونار وخرجتُ الى ضوء الشارع، أفكر بالجمال الذي رأيته، وغبتُ بين زحام المدينة الحية التي منحتني دروساً عميقة، بعد أن فتحتْ أبوابها ووضعتْ أمامي كل هذا الجمال