اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > سينما > ألكساندر نيفسكي.. ايزنشتاين بين الحد الادنى للبروباغندا والسقف الاعظم للفن السينمائي

ألكساندر نيفسكي.. ايزنشتاين بين الحد الادنى للبروباغندا والسقف الاعظم للفن السينمائي

نشر في: 14 يونيو, 2023: 11:45 م

علي الياسري

يعتبر فيلم ألكسندر نيفسكي الذي أخرجه سيرجي ايزنشتاين في روسيا السوفيتية عام 1938 عملاً أساسياً للسينما، حيث كان رائداً في استخدام المونتاج لإظهار التأثير العاطفي ورواية القصص التراثية القومية

فيما تجسدت شهرته الاوسع بذلك الاضفاء للطابع الدرامي بمنظور بصري مُلفت وموسيقى تصويرية متناغمة مع الفعل السردي لمعركة على بحيرة متجمدة -انقذ الانتصار فيها روسيا من احتلال ألماني وشيك وسمح لمدينة نوفغورود بالبقاء حرة وكذلك استعادة مدينة بسكوف- استغرقت نصف ساعة من زمن العرض وقلدها العشرات من صانعي الأفلام الآخرين. هو اول افلام آيزنشتاين الدرامية الناطقة. وعودته المُلهمة والمكتملة اخيرًا بعد حوالي العشر سنوات من المشاريع الفاشلة والشكوك والريبة من النظام الستاليني تجاهه.

يجعل تاريخ ألكسندر نيفسكي من الفيلم قطعة رائعة للدعاية السوفيتية، لكنه ايضًا فيلم ممتع للمشاهدين المعاصرين. عند النظر الى فيلم تم صناعته قبل ثمانية عقود يجدر بنا لفهمه التمعن في حيثيات الحقبة التي صدر فيها. فالعمل خيال تاريخي يعكس طبيعة زمنه وقيمه وافكاره السياسية والاجتماعية وفق ظروف غير عادية للمشاركين بصناعته.

يرى ايزنشتاين ان الفيلم السينمائي مثل نغمات الموسيقى يجب ان يمتلك جاذبيته الخاصة بتكامله الشيئي حين تجتمع لتشكل بوحدتها شبكة متجانسة تولد ايقاع معين يسمح للشكل النهائي بالبروز من خلال اجتماع الصورة والصوت وعناصر الدراما وتفاصيل اللقطة لخلق الانطباع المؤثر على المتلقي.

منذ فيلمه (القديم والجديد) الصادر عام 1929 عانى (ابو المونتاج) من تراجع مكانته خصوصا بعد رحلته الى هوليوود. عاد فوجد الاتحاد السوفيتي يعيش صرامة ستالينية جرت الوبال على مثقفيها المعترضين. في ربيع العام 1937 يحصل على فرصة حقيقية لتخليص نفسه والمشاركين معه فيما بعد من التهم السياسية حين سُمح له باختيار موضوع تاريخي لصناعة فيلم عنه. اختار آيزنشتاين القديس المحارب ألكسندر نيفسكي وانتصاره على الفرسان الألمان من النظام التوتوني في القرن الثالث عشر. والسبب لأنه لم يكن معروفًا عنه إلا القليل نسبيًا ومن ثم رأى المخرج أنه سيعمل في ظل قيود أقل، ما يتيح له حرية فنية تسمح لخياله السينمائي بتفعيل خلاصات افكاره الجمالية. أخبر آيزنشتاين زميله ميخائيل روم أنه سيجد ممثلاً مناسبًا ويلقي به في الدور “وسيعتقد العالم بأسره قريبًا أن نيفسكي الحقيقي كان تمامًا مثل ممثلي”. يتمثل انتصار فيلم ألكسندر نيفسكي في إنشاء قطعة من الخيال لا تسعى لمجرد اعادة إنشاء التاريخ نفسه بقدر ما كانت تروم لتشكيل أسطورة جديدة من خارج التاريخ. بذات الوقت يسمح بتصوير فترة تاريخية بأكبر قدر ممكن من الدقة رغم الصبغة الدعائية وإن كانت بالحد الادنى بالقياس لزمنها. ما جعل الشخصيات معقولة بالنسبة لوقتها ومقبولة لدى المشاهد المعاصر.

لقد عمد ايزنشتاين على تحييد اللقطة كما كان يعتقد نظريًا بتطبيق ذلك عمليًا ومزج عناصر الصور الاولية بما يتيح له خلق بيئة سردية خاصة تناسب حكاية الفيلم وتحقق الاستجابة العاطفية. لتحقيق ذلك برز التعاون بينه وبين المؤلف الموسيقي سيرجي بروكوفييف في خلق البنية السمفونية التصويرية. لعب بروكوفييف دورًا نشطًا في الإشراف على تسجيل المسار الصوتي للفيلم وغالبًا ما ابتكر مؤثرات صوتية لمطابقة المواصفات المطلوبة من المخرج. أراد بروكوفييف عند البحث عن ابتكار موسيقى للفيلم استخدام الموسيقى الروسية من القرن الثالث عشر كمصدر إلهام له، لكنه لم يتمكن من العثور على أي تسجيلات. بدلاً من ذلك استخدم موضوعات القرن التاسع عشر وتكييفها موسيقيًا لإنشاء ما أسماه “العامية المفترضة” التي من شأنها أن تجعل المشاهدين يفكرون في روسيا العصور الوسطى ومن خلال التعليق على الفعل الدرامي بدلًا من ترديده. ساهم بروكوفييف في تحرير سلاسل مشهدية بالفيلم من خلال كتابته لموسيقى تنسجم مع الحركة بالمشهد والقطع الناتج عنها، وأيضا عمل ايزنشتاين على تكييف بعض المشاهد وفق طبيعة الموسيقى التي وضعها المؤلف. التعاون الخلاق بين الاثنين بتطابق الموسيقى والصور صار معيارًا لصانعي الافلام بعدهم.

بالمقابل عمد ايزنشتاين الى خلق التصورات المقنعة من خلال تصميم انتاج سمح بجلب اصل الروس وأميرهم نيفسكي الى الشاشة بتوفير عناصر فايكنغ منمقة، مثل السفن التي يرأسها التنين والمنازل الخشبية الطويلة، بينما تهيمن الكنائس البيضاء الضخمة ذات القباب البصلية على مدينتي نوفغورود وبسكوف باستخدام رموز الماضي والحاضر لإنشاء النسخة المرئية من هذه اللغة العامية المفترضة.

كان ألكسندر نيفسكي اقل افلام ايزنشتاين تجريبًا لكنه امتلك حُزَّم تعبير جمالية بصرية وسردية سمحته له بالريادة. فالفيلم يمتلئ بالعاطفة والتعاطف بعد ان كان الاتهام التقليدي لأفلامه حياديتها الشعورية بسبب اهتمامها بالشكليات الفكرية التي تطغى على مساحات العاطفة.

اظهرت السياسة وجهًا متقلبًا للفيلم حيث تعرض الى موازنات صعبة حتى يستطيع المخرج اكماله منها اضفاء الروح الستالينية على مقاربة نيفسكي معه سواء بحركة نيفسكي بالفيلم ووضع يده مثلا بما يحاكي ستالين او حين ترك ايزنشتاين الفيلم لبرهة حتى يتفرغ لكتابة مقال يقارن فيه بين شخصية القائدين. ولم يقف الامر عند هذا الحد فحدثت مفارقة غريبة مع نهاية المونتاج بعد الانتهاء من التصوير بفترة قياسية. نام ايزنشتاين بسبب الارهاق على طاولة المونتاج وهو في اخر مراحل تحرير الفيلم فكان ان طلب ستالين مشاهدة العمل. قرر مساعدو المخرج اخذ المادة الخام والذهاب بها الى ستالين الذي بدى سعيدًا جدًا بما رأه. وبسبب خوفهم الشديد قرروا الابقاء على ما عرضوه عليه دون اي تغييرات ومن هنا فُقِدت احدى بكرات الفيلم (اخفيت او تم اتلافها) التي لم يتم عرضها على ستالين وحتى جودة شريط الصوت بقيت على حالها. حقق الفيلم نجاحًا هائلاً عند صدوره ولكن في غضون شهرين دخل ستالين في اتفاقية عدم اعتداء مع ألمانيا. فلم تعد الدعاية المعادية للدولة النازية مرغوبة وتم سحب الفيلم من صالات السينما. غير انه بمجرد غزو الألمان لأراضي الاتحاد السوفيتي تم اطلاق ألكساندر نيفسكي من جديد، وعاد لذروة المجد مرة أخرى.

لم يكن نجاح فيلم ايزنشتاين محسوبًا لموضوعته فقط بل لريادته في استخدام التصوير السينمائي والمؤثرات البصرية وتصميم المعارك وحركة الكومبارس وتصميم الانتاج المبتكر والموسيقى التصويرية المؤثرة. لقد صار المنهج الاساسي لعديد الافلام التالية مثل هنري الخامس للورانس اوليفييه وسبارتكوس لستانلي كوبرك وغيرها من افلام المعارك والحشود الكبيرة ومنها عربيًا كان تأثيره واضحًا بشكل كبير على فيلم الناصر صلاح الدين للمخرج يوسف شاهين.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

واشنطن تحذر بغداد من التحول الى "ممر" بين ايران ولبنان

تقرير أمريكي: داعش ما زال موجوداً لكنه ضعيف

انتخابات برلمان الاقليم..حل للازمات ام فصل جديد من فصولها؟

صورة اليوم

المباشرة بتطبيق الزيادة في رواتب العمال المتقاعدين

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

أفضل عشرة أفلام هروب من السجن

النجم غالب جواد لـ (المدى) : الست وهيبة جعلتني حذراً باختياراتي

أفضل عشرة أفلام هروب من السجن

معاهد متخصصة فـي بغداد تستقبل عشرات الطامحين لتعلم اللغة

متى تخاف المرأة من الرجل؟

مقالات ذات صلة

حين تتستر الإيدلوجيا الثورية بقبعة راعي البقر!
سينما

حين تتستر الإيدلوجيا الثورية بقبعة راعي البقر!

يوسف أبو الفوزصدر للكاتب الروائي السوري، المبدع حنا مينا (1924- 2018)، الذي يعتبر كاتب الكفاح والتفاؤل الانسانيين، في بيروت، عن دار الآداب للنشر والتوزيع، عام 1978، كتاب بعنوان (ناظم حكمت: السجن… المرأة.. الحياة)، يورد...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram