ايمانويل مارتن *
ترجمة: عدوية الهلالي
في يناير 2023، تعرضت الحكومة الأوكرانية لفضائح فساد تورط فيها نائب وزير الدفاع ونائب وزير البنية التحتية إذ اتضح أنه قبل الحرب مباشرة، شدد الرئيس زيلينسكي على مكافحة الفساد. لقد كانت أوكرانيا نفسها بالفعل واحدة من أكثر الدول فسادًا في القارة. ووفقًا لمنظمة الشفافية الدولية، كانت اوكرانيا تحتل المرتبة 116 من أصل 180 دولة.وهذه بالطبع أخبار سيئة بالنسبة لبيئة الأعمال والمنافسة الصحية في البلاد.
ولاتبشر مثل هذه المستويات من الفساد بالخير فيما يتعلق بآفاق إعادة الإعمار بعد الحرب. فقد دمر الطيران الروسي العديد من المنشآت، وألحق أضرارًا جسيمة بالبنية التحتية، وعطل النشاط الاقتصادي، وقلل من عدد الرجال الكفوءين. وهكذا، ستنسحب أوكرانيا بمستوى ثروة أقل بكثير مما كانت عليه قبل الحرب.
بالإضافة إلى ذلك، تتدفق ملايين اليورو والدولارات إلى البلاد لدعم جهودها الحربية ضد الغزو الروسي. وبغض النظر عن المبرر الأخلاقي الواضح لدعم جهود الحرب، كان من المحتمل جدًا أن تتلقى البلاد أيضًا مساعدات إعادة الإعمار.ويكمن الخطر في أن الفساد سيعيق جهود إعادة الإعمار، التي تحتاج إلى بيئة صحية ليتم انجازها بنجاح. الآن هو الوقت المناسب لمعالجة هذه المشكلة. ففي آذار، تناول مؤتمر نظمه معهد القيادة الاقتصادية ومقره كييف،بالتعاون مع مكتب الرئيس،بعض جذور المشكلة. وبدعم من جهود توم بالمر من شبكة أطلس لجمع خبراء دوليين في خضم الحرب، قدم المؤتمر حلولاً من زاوية غير عادية: من خلال فحص النظام الضريبي المعقد في البلاد، والذي يشجع على الفساد.
وتعتبرهذه المهمة ضرورية إذا كانت الدولة تريد تقليل اعتمادها على المساعدات والإعانات الأجنبية – وهناك جزء من طبقتها السياسية على استعداد للقيام به - والبناء على نموها الاقتصادي الخاص القائم على الاستثمار المحلي والقدرة على جذب الاستثمار الأجنبي. ومثل المعجزة الاقتصادية في ألمانيا في الخمسينيات من القرن الماضي، عندما قررت الدولة إنهاء مراقبة الأسعار وغيرها من النصائح المتعلقة بالسياسة العامة من الإدارة الخارجية الأمريكية المستوحاة من التخطيط المركزي، يجب على أوكرانيا تحرير اقتصادها.
إن مرونة الأوكرانيين مدهشة مثل شجاعتهم في الحرب، إذ تستمر الشركات في العمل وقد طلب الرئيس زيلينسكي من الناس الذهاب إلى العمل والذهاب إلى المطاعم و "كسب المال". وليس هناك شك في أن صدمة الحرب خلقت "إرادة للعيش"، وكذلك أخوة تمتد إلى الرغبة في المساواة أمام القانون وعدم التسامح مع الفساد و "التعقيدات غير المبررة" على طريق الازدهار الشخصي من بيروقراطية فاسدة وجسد سياسي. وبالتالي، فإن ما تحتاجه البلاد هو قدر أكبر من الحرية الاقتصادية. كما يقول معهد فريزر، وهو مؤسسة فكرية رائدة تدافع عن هذا المفهوم بالقول: "يتمتع الأفراد بالحرية الاقتصادية عندما تكون السلع التي يكتسبونها دون اللجوء إلى القوة أو الاحتيال أو السرقة محمية من الغزو المادي من قبل الآخرين ويكونون أحرارًا في استخدام ممتلكاتهم أو استبدالها أو التخلي عنها طالما أن أفعالهم لا تنتهك الحقوق المتطابقة من الآخرين. وللأفراد حرية الاختيار والتداول والتعاون مع الآخرين والمنافسة على النحو الذي يرونه مناسبًا".
الحرية الاقتصادية اذن هي خطوة حاسمة للازدهار. وتسهم الضرائب الأقل ثقلاً والأكثر شفافية بشكل كبير في ذلك.فقد استندت "ثورة ريجان" عام 1980 في الولايات المتحدة جزئيًا إلى منحنى الجرس الشهير(منحنى التوزيع الطبيعي) للاقتصادي آرثر لافر في مايخص الضرائب.
كانت رسالته بسيطة: فوق مستوى معين من معدلات الضرائب في الاقتصاد، تصبح الضرائب ذات نتائج عكسية، لأن المعدلات الأعلى تولد إيرادات ضريبية أقل للدولة. السبب؟ تعتبر الحوافز على العمل والاستثمار مهمة، خاصة عندما تكون معدلات الضرائب الهامشية مرتفعة. لذلك يفضل العمال استبدال أوقات الفراغ بالعمل. إن معدلات الضرائب المرتفعة للغاية على الأرباح لها تأثير مخيف على الأعمال. وفي الواقع، أدركت العديد من البلدان أهمية تأثير لافر وعدلت نظامها الضريبي وفقًا لذلك في الثمانينيات كالمملكة المتحدة والولايات المتحدة وايرلندا عام 2000.
ومع ذلك، ففي أفقر البلدان، لا يستطيع الناس تحمل عدم العمل. إنهم يقللون من نشاطهم الرسمي ويقومون بأعمال "سرية" للتهرب من الضرائب. وهذا هو الوضع بالضبط في أوكرانيا إذ تتجنب الشركات دفع الضرائب.وقد طبقت بعض البلدان خفض الضرائب، مع نتائج مقنعة من حيث الإيرادات الضريبية. فخفضت بلغاريا معدلات ضريبة الدخل على الشركات والأفراد إلى 10٪، بينما زادت أيرلندا من عائداتها الضريبية بنسبة 50٪ بعد خفض معدل الضريبة على الشركات إلى النصف في 2000-2003.
وفي أوكرانيا أيضًا، يمكن تنفيذ الدرس المستفاد من تأثير لافر فقد قال أكثر من نصف المستجيبين إنهم سيكونون على استعداد لدفع ضرائب رسمية إذا كانت أقل، ويقول 28٪ إنهم سيرفعون حصتهم من الأجور الرسمية. وقال أقل من 2٪ من المشاركين في الاستطلاع إنهم سيتجنبون دفع الضرائب على أي حال. كما هو الحال في البلدان الأخرى التي نفذت إصلاحات ضريبية شاملة، ويمكن أن تزيد الإيرادات الضريبية.
ومع ذلك، فإن خفض الضرائب ليس هو الجزء الوحيد من اللغز.فالبساطة والشفافية الضريبية مهمة أيضًا. ان الضرائب مسألة ثقة في الدولة. وفي سياق عدم الثقة في المجتمع وضعف القدرة على إدارة الضرائب، غالبًا ما تكون الأنظمة الضريبية دون المستوى الأمثل.وهم يعتمدون على ضرائب وجبايات أقل كفاءة من الناحية الاقتصادية، مثل الضرائب على المبيعات أو التجارة أو المدخلات. ويتم اختيار هذه بدقة لتجنب التهرب الضريبي، والذي يمكن للضرائب الأقل كفاءة، مثل ضريبة الأرباح، تحمله بسهولة أكبر. كما يذكرنا الاقتصادي سيميون دجانكوف والنائبة الأوكرانية ماريان زابلوتسكي، فهذا هو الحال بالضبط في أوكرانيا.
ويضيفون أن نظام الضرائب الأوكراني يخلق تشوهات لأن قانون الضرائب لا يتم احترامه في الممارسة العملية. وبالطبع، هناك اقتصاد سري: فما يقدر بـ 42٪ من الشركات الأوكرانية تعمل بشكل غير رسمي. لكن الموقف أكثر تعقيدًا ممارسات تحصيل الضرائب غير الرسمية ترقى إلى مستوى المفاوضات المباشرة بين الشركات والسلطات الضريبية، ما يمنح الأخيرة مساحة كبيرة. وهذا لايؤدي إلى معدلات ضريبية فعالة "متفاوض عليها" فحسب، بل إنه يفتح الباب أيضًا أمام الفساد. لذلك يدافع دجانكوف وزابلوتسكي عن تبسيط النظام بمعدل موحد.
وعندما يتعلق الأمر بالشفافية الضريبية، فإن دولة أخرى في فترة ما بعد الاتحاد السوفيتي، وهي إستونيا، ربما تكون أفضل مثال. إذ تم تصنيفها كأفضل نظام ضريبي من قبل مؤسسة الضرائب الأمريكية على مدى تسع سنوات. ودولة البلطيق، التي أدخلت ضريبة سعر ثابتة في عام 1994 (والتي كانت "تصاعدية" قليلاً منذ عام 2018 مع إدخال أقواس جديدة)، فلديها نظام ضريبي شديد الشفافية ويمكن التنبؤ به وسهل الاستخدام. وليس من المستغرب أنه يقلل من تكلفة دفع الضرائب بالإضافة إلى عدم الكفاءة الاقتصادية، ولكنه أيضًا يولد المزيد من الثقة المدنية - وهو شرط أساسي لديمقراطية تعمل بشكل جيد والتي ستدير إنفاقها العام بطريقة حكيمة.
وتعتمد السيناريوهات المستقبلية على كل من القوى الداخلية والخارجية ويمكن للحرب أن تبلور إحساسًا وطنيًا بالمساواة والمسؤولية، وبالتالي تقلل من التسامح مع الفساد وتسهل قبول الإصلاح، لكنها يمكن أن تؤدي أيضًا إلى مزيد من الفساد، ويبدو أن الفضائح الأخيرة تؤكد هذا الخوف الأخير.
وقد يكون جمود الإدارة الضريبية نفسه عقبة، لأن العادات القديمة لا تموت بسهولة، على الرغم من الحوافز الجديدة التي قدمها الإصلاح. لكن المصالح الخاصة يمكن أن تبطئ على وجه التحديد عملية الإصلاح.
ونظرًا لمستوى المساعدة الدولية، من المحتمل أن يكون للكيانات الأجنبية رأي أو بعض قوة الضغط. إن المنظمات مثل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ليست من أشد المؤمنين بالضرائب الثابتة أو المنافسة الضريبية. وبغض النظر عن نظريات المؤامرة، فإن المقرضين الدوليين لديهم أيضًا مصلحة في الحفاظ على بعض الاعتماد على الدين العام. ومع ذلك، إذا تم تعويض الضرائب الأقل والأكثر شفافية في أوكرانيا من خلال ارتفاع الدين العام بعد الحرب (كما رأينا في العديد من البلدان)، فسيكون جزء من معادلة المساءلة والحكم الرشيد مفقودًا.
* بروفسور في الاقتصاد في جامعة إيكس أون بروفانس في فرنسا