ستار كاووش
لا يمكنك أن تضيع الكثير من الوقت في مدينة مثل بروكسل، لذا كان عليَّ أن أهيء نفسي باكراً لزيارة المتحف الملكي. قطعتُ سبعة كيلومترات مشياً بين شوارع وأزقة وساحات بروكسل، وقد بدا الطريق الى المتحف أطول ممما توقعته، ذلك لأني كنتُ أتوقف هنا وهناك أمام هذه البناية التي تعود لطراز الآرت ديكو،
أو أتطلع لذلك المتجر القديم الذي غُطيت واجهته برسومات الزجاج الملون المعشق بالرصاص، وأتحسس أحياناً بعض البيوت التي تعود الى عصر الباروك والمبنية بحجارة حمراء. مضيتُ وسط كل ذلك أفكر بالمتحف وما سأراه هناك، حتى وصلت الى متنزه يوبيل الرابض بشكله المربع بالجانب الشرقي من بروكسل. وفي مقدمة المتنزه، إنتصبَتْ بناية المتحف العملاق الذي وقف شاخصاً بهيبة، معلناً بأنه أهم متاحف المدينة. هنا يحتاج المرء بضعة أيام كي يرى جميع المعروضات، فَحِصَّة الفن المصري القديم وحده هي إثنتي عشر ألف قطعة في هذا المتحف، لذا كان عليَّ البدء بالأعمال الأكثر أهمية، وللتأكيد سألتُ موظفة بيع التذاكر، إن كان بإمكاني الخروج بعد ثلاث ساعات، للإستراحة والجلوس قليلاً في المتنزه ثم العودة لإكمال مشاهدة باقي المعروضات. فقالت أن هذا متاح تماماً، لكن عليَّ الإحتفاظ بالتذكرة عند الدخول مرة أخرى.
إنفتحتْ أمامي قاعات المتحف بطوابقها المتعددة، ياللهول كما يقول الممثل يوسف وهبي، تذكرة واحدة تدخلني الى آلاف القطع الفنية، نعم قطعة صغيرة من الورق تجعلني أجوبُ هذه العوالم الممتدة آلاف السنين! طويتُ التذكرة في جيبي تحسباً للإستراحة المحتملة، وبدأتُ بالفن المصري الذي بدا كإنه يتكاثر ويتمدد بين القاعات التي إكتسبتْ بسببهِ هالة من القدسية الممزوجة بالفتنة، تماثيل ملونة ورسومات مذهلة ومنحوتات صغيرة تشبه التعاويذ، كتابات صورية على الحجر وأشكالٍ محفورة على قطع من الجدران القديمة التي بانت فوق سطوحها بصمات الزمن. ياللدِقة المصحوبة بالمشاعر، وياللرِقة التي جعلت الحجر مادة حية. الروح العالية للمصريين القدماء هي التي تتكلم هنا، والجمال الذي كان وما يزال يغطي أرض الكنانة هو الذي يقول الحقيقة بين جدران هذا المتحف، فلا شيء يعلو على الابداع حين يكون مبتكراً وحقيقياً وتأسيسياً. هنا وسط هذا المتحف، شرق عاصمة بلجيكا، رأيتُ كيف قالت مصر كلمتها للتاريخ، وكيف أستمع لها العالم أجمع ومازال يستمع حتى هذه اللحظة التي أقف فيها هنا، يحيطني ناس من مختلف الجنسيات، وهم منبهرين بهذه الأعمال الفنية الخالدة.
وسط قاعات الفن المصري، أُفتتحت بوابات لقاعات جانبية أخرى تحتوي على عدد كبير من توابيت المومياوات المزينة بالرسومات والكتابات، وهي من أندر الأبداعات الفنية المصرية التي إمتزج فيها النحت والرسم والتصميم والزخرفة والكتابة. لاشيء في تاريخ الفن يشبه هذه المومياوات، ولا يقترب من أصالتها وجمالها أي إبتكار فني آخر على الإطلاق. وهكذا أثبت المصريون إنهم عباقرة الابداع في حياتهم، ومماتهم أيضاً.
تجولتُ بين آلاف القطع المصرية التي حيرتني حقاً بإبداعها العظيم ، وتساءلتُ عن كيفية وصول هذا العدد المهول من الأعمال الى هذا المتحف، لتظهر بوجهي مجموعة من الصناديق الخشبية المتشابهة التي عرضها المتحف في مكان خاص والتي أُستعملتْ في نقل أغلب هذه الاعمال من مصر الى بلجيكا، فلم يعرف الناس البسطاء قيمة هذه التحف في ذلك الوقت مع الأسف، حتى وقعتْ بين أيدي الأوروبيين، الذين إستحوذوا عليها مجاناً أو بتراب الفلوس، وبطريقة المستعمر الذي ينهب ثروات الشعوب، وهكذا تم وضع الكثير مما خرج من أرض مصر في ذلك الوقت داخل الصناديق، لتُشحن مباشرة نحو قارة أوروبا. من جانب آخر، يمكننا القول إن عظمة هذا الابداع قد عرفها العالم أجمع من خلال مثل هذا المتحف وغيره، ليصبح الفن المصري ملكاً لكل العالم ومتاحاً بسهولة وأمان للجميع. لقد فكر الأوروبيين بأنهم قد غزوا أرض الكنانة واستخرجوا منها هذه الثروات المهمة، لكن الفن المصري هو الذي غزاهم في نهاية المطاف، بل غزا العالم أجمع بما يحمله من حكمة وإبداع وجمال لن يخبو رغم مرور آلاف السنين. وكما تقول الحكمة الفرعونية القديمة (الشجرة التي تجنى ثمارها اليوم، قد زرعها أباك من قبل .. فازرع شجرة مثلها حتى يجني أبناؤك ثمارها فى الغد). وها هي شجرة مصر تُثمر ليس لابنائها فقط، بل إن ثمارها للجميع وظلالها الوارفة تستظل بها متاحف العالم.
يتبع